في الخطابات السامية الأخيرة للراحل الملك الحسن الثاني ورد، أن الملك له الحق كذلك في التقاعد بعد إنهاء المهام الكبرى؟ وفعلا أنهى الملك الراحل الحسن الثاني المهمة السياسية الكبرى لفترة حكمه والتي كانت صدامية ودموية إزاء حاملي المشروعات المجتمعية الهادفة إلى تقليص سلطات الملك وتحويله إلى ملك يسود ولا يحكم، في حين آمن الملك الراحل بإضعاف كل القوى التي تشكل وسطا بينه وبين الشعب، ليكون الولاء الشعبي بدون قوى وسيطة. وإذا كان واضحا الصراع الصدامي في مرحلة الرصاص بين مكونات اليسار وقطبيها الحركة الاتحادية وقبلها جيش التحرير، فقد كان للقصر آنذاك صراعا آخر لا يقل ضراوة مع حزب الاستقلال الذي كان مسيطرا على القرار الإداري والاقتصادي باسم حماية والدفاع عن الملكية ضد أعدائها الاتحاديين والماركسيين. وفعلا استطاع الحسن الثاني قبل وفاته تقزيم نفوذ حزب الاستقلال داخل دواليب الدولة وأن يدخل الاتحاد الاشتراكي إلى القفص إلى جانب كائنات قفصية سميت أحزابا إدارية، فتكيف وتناسل معها وتوحدت الجينات. في هذا الوضع تولى العرش الملك الشاب محمد السادس، وريث سر الراحل الحسن الثاني، الذي طوي الملف السياسي، ليغلب الطابع الاقتصادي وفتوحاته على الإنجازات الجارية منذ العهد الجديد. ويبقى السؤال، هل إضعاف واختراق واحتلال الأحزاب وفك ارتباطها بقواعدها، وتحويلها إلى خدم مختلفي الأدوار للسدة المخزنية، سيجعل السكان موالون بشكل أوتوماتيكي للدولة؟. الولاء له أساسان إما تحقيق الخدمات والكرامة، وإما الإكراه، الأولى غير محققة والثانية تعني الخضوع والامتثال، إلا أن كل علوم الاجتماع البشري تؤكد أن الممتثل والخاضع هو الوجه الثاني للمتمرد. وفي هذا السياق وبتأكيد من الخطابات السامية نفسها، فإن قاعدة الأحزاب السياسية المنخرطة في اللعبة السياسية لا تتجاوز 20 %. وفي نفس السياق وبمناسبة اليوم العالمي للأسرة أشار المكتب التنفيذي للرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، ، إلى أن الأسرة المغربية تعيش وضعية خطيرة تهدد استقرار المجتمع، لعدم قدرتها على الإدخار وفق نتائج البحث حول الظرفية لدى الأسر، الذي أكد أن 85.5 % من الأسر لن تكون قادرة على الإدخار في الأشهر ال12 المقبلة، وأبرز البحث التغييرات الكبيرة، التي طرأت على بنية الأسر على مدى 50 سنة الماضية، حيث أصبحت الأسر أصغر حجما، وتأخر الزواج والإنجاب، وارتفعت معدلات الطلاق، إلى جانب تزايد عدد الأسر ذات المعيل الوحيد أو الأسر التي تعيلها نساء، الشيء الذي أثر بشكل واضح على قدرات الأسر في أداء تلك الوظائف، ومنها التنشئة الاجتماعية للأطفال، وتقديم الرعاية لأعضائها الأصغر سنا منهم والأكبر، واستمرار ارتفاع ظاهرة أطفال الشوارع والمتشردين، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية للبطالة على وضعية الأسر المغربية، وبالأخص في صفوف حاملي الشواهد. وقبله أكدت الدراسة التي أجرتها إحدى المنظمات الدولية أن المدرسة المغربية تعتبر أسوأ مدرسة في العالم، حيث احتل المغرب الرتبة 73 من أصل 76. وكانت تقرير للبنك الإفريقي للتنمية قد رصد ثلاث مفارقات، أولاها أنه على الرغم من أن المغرب يحقق معدل استثمار يعد من بين أعلى المعدلات في العالم، 31.7 في المائة من الناتج الداخلي الخام سنة 2012، يظل معدل النمو دون المتوقع، ويبقى هذا النمو مرتكزا أساسا على الاستهلاك الخاص والعام، أما المفارقة الثانية فتتمثل في أن التحول الهيكلي للاقتصاد بطيء والتصنيع ضعيف رغم حجم الاستثمارات الكبير، في حين تتجلى المفارقة الثالثة في أن القطاع الخاص يظل ضعيف الحركية ويفتقر إلى مقاولات صغيرة ومتوسطة الحجم، رغم أن هذه الأخيرة عادة ما تكون الأكثر ابتكارا في بلدان أخرى!؟. أما على المستوى السياسي فإن الخريطة السياسية المقبلة المرتقبة لتدبير المرحلة أو الدورة السياسية المقبلة وجدول أعمالها الثقيل والنوعي في التقسيم الترابي والموضوعاتي لا تحمل جديدا في ملامحها الواضحة من حيث الوضع الاجتماعي والخدماتي المأزوم، أومن حيث الأحزاب السياسية الضعيفة والذيلية، والتي أصبحت تتنافس وتتسابق على نيل شرعيتها من المؤسسة الرسمية، هاته الأخيرة التي ألزمتها بتغيير لاعبيها، وفي حالة العجز ستزود المؤسسة الأحزاب بأطر تحت عنوان تجديد النخب، وهو ما يجري فعلا، بعد مرحلة إمعان المخزن في الإذلال لهاته الأحزاب، خصوصا حزبي الاستقلال بتشبيطه والاتحاد بتشڭيره، نتيجة لما شكلاه من معانات للمخزن، مع اختلاف المواقع طبعا، مما سيعمق حالة المفارقات التي أصبحت تميز الزمن المغربي في مختلف مجالاته، ويبقى الأكيد أن الاستحقاقات المقبلة وما يجري لتحضيرها، لم يحمل بعد محفزات للقضاء عن العزوف السياسي، رغم المراهنة على استقطاب فاعلين جدد من الطبقة الوسطى بقيادة التراكتور للوردة والميزان والحمامة، ضد المصباح الذي لم ينضب وقوده، عكس ما خطط له، على أرضية مسرحية سياسية بدون نص ديمقراطي ويبقى الأكيد كذلك أن الاستقرار الأمني الحقيقي هو المبني على الاستقرار الاجتماعي، في توفير العدل للمظلومين والصحة للمرضى والتعليم للناشئة والشغل للبالغين والمأوى للمشردين، إنها شروط الكرامة في جيل ثورة المعلوميات وانتهاء احتكار المعلومة، ولن يتحقق هذا إلا في ظل الدولة المدنية التي تكون في خدمة المجتمع المدني المبني على المواطنين، وليس مجتمع مدني جاهل ومريض وعاطل من الرعايا في خدمة الدولة المخزنية، التي لا زالت مقوماتها قوية خصوصا مع ما تعرفه المنطقة العربية من تراجع وتفكك، وما تحمله العولمة من نفاق واختراق وسلب للسيادة، واجتثاث منابع الثورات. ومع ذلك فإن نجاح التنسيقات الأمنية العبر الدولية في ضبط وإجهاض التنظيمات الحاملة لمشاريع التغيير على أرضية برامج ديمقراطية وحداثية، فإن اتساع رقعة الحرمان والرضوخ والامتثال لن تؤدي إلى تغيير طبعا، ولكنها شروط موضوعية وذاتية كذلك للتمزق المجتمعي والأمني الذي يأتي على اليابس والأخضر، لأنه مهما كانت قوة التراكتور وملحقاته/ مكملاته فلا بد من التربة الخصبة وليست القاحلة ومياه السقي التي لا تحل محلها الأسمدة ومخططات المغرب الأخضر الناجحة في الرفع من الإنتاجية بإعدام الملكيات الصغرى وابتلاعها ضمن الضيعات الكبرى المقصية والمشردة للأغلبية العظمى من الفلاحين الصغار بما فيها الأراضي السلالية، لصالح إقطاعية حديثة، مما أفرغ البوادي وريف المدن بأحياء مليونية دون خدمات على شكل أرضية خصبة لاستنبات التطرف الله إستر وطننا الحبيب وما يميزه من استقرار أمني محكم وفق برامج وآليات وميزانية من أجل حراسة الفقراء قيمتها أكثر من ميزانية القضاء على الفقر. ذ.محمد الحجام مدير نشر جريدة ملفات تادلة