الجدل الذي لا زال متواصلا في بلادنا بشأن مسودة إصلاح القانون الجنائي، التي أعلنت عنها وزارة العدل والحريات، يعتبر غير مسبوق، وهذا في حد ذاته مهم، ولا بد من تشجيعه ليقود نحو بلورة مرتكزات تقدمية للإصلاح. القانون الجنائي يجسد في الواقع بنية قانونية لها امتداد واسع بمختلف مناحي الحياة، وعلى صعيد العلاقات الفردية والجماعية، ولذلك فهو يعرف هذه الأهمية والحساسية، حتى أن بعض القانونيين يضعونه في الرتبة الثانية مباشرة بعد النص الدستوري... المسودة المتداولة اليوم تتضمن، بلا شك، مستجدات ومراجعات إيجابية على مستوى العقوبات، وبخصوص السياسة الجنائية، ولو أنها هي أيضا تقتضي إصلاحات عميقة تهم المسطرة المدنية وتأهيل القضاة وتقوية منظومة النزاهة وسطهم من أجل حسن التطبيق، ولكن المشكلة الكبرى اليوم توجد، أساسا، في بروز البعد القيمي والهوياتي كنقاط ذات أولوية في النقاش الوطني حول إصلاح القانون الجنائي. هذا المعطى ليس بلا أهمية، وإيجاد الحلول له لا يكون انطلاقا من الخطب المنبرية الشعبوية، وإنما الأمر يتطلب وضوحا صارما بشأن المستقبل الذي نريده جميعا لبلادنا. إن تركيز القانون الجنائي على قضايا هوياتية وقيمية يجعلنا نتحرك في ملعب الحريات والحقوق التي لم يعد العالم اليوم يقبل المس بها أو التضييق عليها، وهذا لا يعني إنكار أشياء هي أصلا موجودة في دستور البلاد أو القفز عليها، وإنما الأمر يتعلق بوضع البلاد ومنظومتها في طريق أفق التحديث والعصرنة وعدم التناقض مع الدينامية الحقوقية والديمقراطية العامة التي تشهدها المملكة. إن رفع سقوف المزايدة والعدمية مرفوض، كما أن اختراق السياسة الجنائية الوطنية لتفخيخها وجعلها مغلولة بأثقال الماضي المتخلف والفهم البدوي البئيس للنص الديني يعتبر أيضا مرفوضا ومتناقضا مع تطلع المغاربة للحداثة والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. القانون الجنائي هو نص جوهري وفاصل ويؤثر في حياة الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وبينهم وبين الدولة والمؤسسات، كما أنه يحدد وجهة السير العام للمجتمع سوسيولوجيا وقيميا، وعلى صعيد أفق التطور وصورة البلاد في العالم، ولذلك فإن صياغته وتحديد بنوده وتفاصيله وتوجهاته يتطلبان ذكاء استراتيجيا وسياسيا واجتهادا فقهيا ودينيا وفكريا وقانونيا، بالإضافة إلى وضوح الرؤى والقناعات مع اعتماد الهدوء والرزانة بلا شعبوية أو مزايدة أو تطرف أو عمى الأبصار. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته