الإجراءات التي أعلن عنها الاثنين في ختام لقاء جمع وزير الاتصال بالمكتب التنفيذي للفيدرالية المغربية لناشري الصحف، بقدر ما أنها ليست كافية لمواجهة كل ما يتهدد المقاولات الصحفية الوطنية من مخاطر وتحديات، فهي تعتبر بالفعل تجسيدا عمليا لوعي جدي من شأنه المساعدة على تفعيل مخطط وطني حقيقي لإنقاذ هذا القطاع الاستراتيجي والحيوي لكل بناء ديمقراطي في العالم الحديث. المقاولات الصحفية المغربية ليست مهددة فقط بالتحولات التكنولوجية والقيمية والسلوكية العالمية التي مست كبريات الصحف في أوربا وأمريكا، وإنما هي تواجه، فضلا عن ذلك، تحديات لها خصوصية محلية ولا توجد سوى في المغرب. الدراسة التي أنجزت مؤخرا حول المقروئية كشفت مثلا على أن آلاف المغاربة يقرأون الصحف في المقاهي مجانا، ويتناوب أكثر من شخص على صحيفة واحدة، كما تنتشر ظاهرة كراء الصحف، وهذا الواقع المختل يؤكد وجود أعداد كبيرة من القرّاء لا يؤدون سعر الصحيفة، ما يعتبر بمثابة مداخيل كبيرة تحرم منها المقاولات وتضيع على القطاع. الواقع كذلك يشهد اختلالات فضيعة في سوق الإشهار، حيث بالإضافة إلى غياب الوضوح وسيادة الزبونية والتوجيه وكثرة الوسطاء، أضيف اليوم لجوء عدد من المقاولات الاقتصادية المغربية الى التعامل مع محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي مؤسسات عالمية تستفيد ولا تدفع شيئا مقابل ذلك لا للمغرب ولا لقطاع الصحافة، ثم جاءت الأزمة لتضيف الباقي ونتج عنها تراجع الميزانيات المخصصة للإشهار في الصحف بنِسَب كبيرة ومخيفة. ثم هناك معضلة التوزيع، وما باتت تعرفه في الفترة الأخيرة من إجراءات شددت الخناق على كثير صحف وطنية عريقة لها مكانتها السياسية والاعتبارية في البلاد. وفقط هذه المشكلات الثلاث (القراءة المجانية والعرض العشوائي، تراجع مداخيل الاشهار، الإجراءات الجديدة للتوزيع) بإمكانها توقيف عدد من الصحف في السنوات القليلة المقبلة وخنق أنفاسها وإفلاس عدد من مقاولات القطاع. الإعلان اليوم عن الزيادة في أسعار نشر الإعلانات الإدارية والقضائية ورفع التنصيص على حجم السحب من قائمة شروط الاستفادة من الدعم العمومي، هما إجراءان مساعدان فقط، كما أن التفاوض مع المواقع التواصلية الدولية والسعي للوصول معها إلى توافقات كما حدث في بلدان أخرى، والانكباب على دراسة واقع الإشهار في بلادنا ومراجعة مقتضيات العقد البرنامج بغاية حماية وتطوير النموذج الاقتصادي للمقاولة الصحفية، المكتوبة والإلكترونية، كل هذا يستطيع بالفعل فتح آفاق النمو، لكن فقط متى جرى الانكباب عليه بالجدية اللازمة، وفي إطار الاستعجال، وضمن مقاربة شمولية والتقائية تنخرط فيها كل الوزارات ذات الصِّلة، وليس فقط وزارة الاتصال، ويكون تجسيدا حقيقيا وعمليا لإرادة الدولة بكاملها من أجل إنقاذ هذا القطاع الهام وحمايته. الصحافة هي ركيزة جوهرية في البناء الديموقراطي للبلاد ومن تجليات وأدوات صيانة التعددية وتقويتها وتمتين أسس دولة القانون، كما أنها صوت الدفاع عن مصالح البلاد وقضاياها الوطنية الكبرى، وبالإضافة الى ذلك فَلَو انعدمت لما كان هناك من سيراقب مثلا شفافية مناخ الأعمال، ويدافع عن تكافؤ الفرص ونزاهة التنافس الاقتصادي، أي حماية حق المقاولين أنفسهم في الاستفادة والعمل والربح، ومن هنا فالحقل الاقتصادي الوطني من مصلحته دعم الصحافة الوطنية ومساندتها للاستمرار ولتحافظ على استقرارها المقاولاتي والتدبيري ومتانتها المالية وإشعاعها الإعلامي، لأن ذلك سيوفر أيضا للمقاولين المغاربة منابر تراقب حسن سير السوق وتضمن شفافية مناخ الأعمال وحق الجميع في التنافس، وإعمال دولة القانون في المجال الاقتصادي والمالي. إن ما أعلن عنه من إجراءات من طرف وزارة الاتصال يجب أن يكون مجسدا لوعي حقيقي ورؤية استراتيجية واضحة لدى الدولة لإنجاح مخطط شامل وناجع لإنقاذ مقاولات الصحافة وتمكين بلادنا من صيانة تعدديتها الإعلامية والسياسية، والحفاظ على صمامات الأمان التي تمتلكها لمواجهة كل خصومها. وسيكون خطرا ومن باب اللعب بالنار أن يترك القطاع وحيدا يسير نحو الموت، أو أن تصحو البلاد وتجد أكشاكها بلا صحف، أي بلا أي صوت، عدا الأصوات المبحوحة عديمة المصداقية والنظر، والتي لا هواجس لها بشأن القطاع أو البلاد أو أي شيء. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته