ما تشهده فرنسا، يميناً ويسارا وحواليهما، استعدادا للانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2017، يغري الكثيرين عندنا بإجراء المقارنات بين ما يجري هناك وما نحياه نحن هنا، وبعضنا لا يتردد في اقتراف لعبة الإسقاط المفتقدة للمعنى ولشروط القياس و... الإقناع. بداية، هناك طريقة اختيار المرشح وصيغة الانتخابات التمهيدية، وهذه منظومة عامة اختارتها فرنسا، كما أن للولايات المتحدةالأمريكية منظومتها المعمول بها بهذا الخصوص، وربما هذا التنافس"التسخيني"هو الذي يحفل بالجاذبية الإعلامية والشعبية، ولكنه يبقى نموذجا لفرنسا توافق عليه الفرنسيون. الهيئة الناخبة هناك تبقى بدورها مختلفة، والمحيط السياسي العام والتمثلات والقيم المتجذرة لدى المواطنات والمواطنين، كل هذا يتباين بين هذا البلد وذاك، بحسب مستويات الوعي الثقافي والمدني، وطبيعة موازين القوى في المجتمع، وعراقة التجربة الديموقراطية والمؤسساتية. ولهذا تبقى لعبة الإسقاط الطفولي غير مجدية لإجراء المقارنات، ولا يمكن "التنقاز" عبر الانطلاق مما يجري هناك لصياغة خلاصات ومواقف وتنظيرات لما يجب أن يجري هنا. من جهة أخرى، تقدم التجربة في فرنسا، مع ذلك، دروسا مهمة لنا هنا والآن. ومن ذلك أنه في غمرة التنافس بين المرشحين المحتملين، في هذا الخندق الحزبي أو ذاك، كنّا نتابع سجالات رصينة وعميقة حول التصورات البرنامجية لكل طرف، وكنا نسمع خطابا حول المضمون وحول العمق، وشاهدنا برامج تلفزيونية ومناظرات ممتعة. التنافس داخل اليمين والوسط، والذي إنتهى لصالح فيون، كشف كذلك على أنه فضلا عن التباين في المواقف والرؤى، فالناخبون قفزوا، إلى حد ما، على وحدة الانتماء الحزبي والفكري والمرجعي للمرشحين، واحتكموا إلى قوة الشخصية، ومن ثم بعثوا إشارة مؤداها أن شخصية القائد السياسي وكاريزميته صارت بدورها أساسية في لعبة التنافس، علاوة طبعا على النجاح في التقاط تحولات الواقع وبلورة إجابات لتطلعات الناس، وأحيانا اختيار المعجم اللغوي والخطابي المناسب للحظة الانتخابية والبيئة السوسيولوجيّة. هذه الإشارة عكسها الاختيار شبه المفاجئ لفيون مرشحا لليمين، وذلك على حساب ساركوزي وجوبي بالخصوص، كما برزت أيضا في خلفية قرار الرئيس الاشتراكي الحالي هولاند عدم الترشح لولاية ثانية. فبغض النظر عن المضمون السياسي والفكري، فإن انتخابات الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتمهيديات فرنسا، وقبلهما انتخابات إسبانيا، أسست، بهذا المستوى أو ذاك، "بروفيل" جديدا للقائد السياسي. وإلى جانب ما سلف، فمن تمهيديات فرنسا، يمكن كذلك أن نتمعن في دلالات درس آخر لا تخفى أهميته لنا نحن هنا، وبالذات في ظروف اليوم. لقد تابع الكل كيف أنه بمجرد إعلان فوز فيون بترشيح اليمين، سارع جوبي، وقبله ساركوزي، للاعتراف بالهزيمة وإبداء الدعم له والاصطفاف خلفه. هذا سلوك يقوم على تقديس المبدأ الديموقراطي، وعلى احترام أخلاقيات العمل السياسي، وعلى... التربية!!! كما أن الرئيس هولاند لم يتردد في القول، وعبر التلفزيون، بأنه واع للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن خطوة من قبله لن تلقى التفافا واسعا حولها، ولذلك قرر عدم الترشح للانتخابات الرئاسية، وكان بذلك أول رئيس جمهورية منذ 1958 يرفض الترشح لولاية ثانية. هنا أيضا المعني بالأمر هزم أنانيته وانتصر لالتزامه السياسي والحزبي والأخلاقي، واستحضر... بعد النظر!!! إن من تغريه إذن لعبة المقارنات، ومن هو مصاب ب"بلية" النقل والاستنساخ من فرنسا، يجب أن يتعلم منها هذا بالضبط. عليه أن يتعلم منها كيف يعترف باختيار الناخبين ونتائج صناديق الاقتراع، وأن يسارع عند الهزيمة فورا إلى تهنئة من فاز بثقة الناخبات والناخبين. عليه أيضا أن يدفع كل الأحزاب كي تطور عرضها السياسي و"البشري"الذي تقترحه على الناخبين، وأن تقدم"بروفيلات"حزبية تمتلك المصداقية والنزاهة والكفاءة وقوة الشخصية وبعد النظر. وعليه أن يحرص على إستقلالية قراره الحزبي، وأن يحفز الحياة السياسية والمؤسساتية على تطوير ديناميتها وإنسيابية سيرها العام بلا ضغوط متبادلة أو مساومات أو... بلوكاج. وعليه أن يتيح للناس أن تختار بحسب الأفكار والبرامج، وأن يعمل كي يطور الجهد الجماعي العام في البلاد لمحاربة التزوير والفساد الإنتخابيين والحياد السلبي للإدارة... إن فرنسا بقدر ما أنها تُمارس تجربتها الديموقراطية الصالحة لشعبها، فهي مع ذلك تغرينا بدروس صالحة لنا، ويجب أن نلتقط إشاراتها. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته