الفساد آفة هذا الزمان وكل زمان، طالت جميع المجتمعات، تلوثت بها أسماء كبيرة مشهورة وأخرى صغيرة نكرة، لم تغب يوماً عن أي مجتمع، وفي أي مرحلة، وليس متصوراً أن تغيب. ولكن إذا كان كذلك فلماذا الحديث عنه اذاً، ولماذا يكثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة؟ حينما يكون المجتمع سليماً معافىً فإنه يمتلك آليات لقمع الفساد ومحاصرته، وبالتالي يكون الفساد في هذا المجتمع سمة جزئية ومدانة تمارس في السر، وتهرب وتتستر أمام قيم النزاهة والعدل والتعاون وتكافؤ الفرص. أما حينما ينتشر الفساد في مجتمع ما أو يصبح الفساد سياسة معتمدة في هذا المجتمع أو ذاك، عندها يحدث العكس، حيث تذوي قيم النزاهة والعدل والشرف في زوايا معتمة من زوايا المجتمع لتخلي الساحة للفساد وآلياته. حينها يصبح الفساد آفة خطيرة تتهدد المجتمع وتدفعه باتجاه التدهور والانحطاط.
مستويات الفساد:
يمكن القول أن الفساد الذي يصيب المجتمعات ليس مستوى واحداً، ويمكن تقسيم هذه الظاهرة نظرياً إلي ثلاثة مستويات، وأقول نظرياً، لأنه من الناحية العملية يصعب الفصل بين هذه المستويات الثلاثة، حيث يمكنها أن تختلط مع بعضها، ولا تفصل بينها حدود واضحة المعالم. وأول هذه المستويات: الفساد الجزئي. وهو الفساد الذي يجب أن نتوقع وجوده في كل المجتمعات، والذي تلاحقه أجهزة الرقابة في الدولة، ويتصدى له القضاء والضمير العام ويعتبر من وجهة نظر الثقافة العامة قيمة سلبية يتستر صاحبها ويخفيها عن مجتمعه، وحينما يتم الكشف عنها فإن هذا الفاسد أو ذلك يصبح منبوذا. المستوى الثاني: هو الفساد المنتشر. في هذا المستوى من الفساد، فإن الفساد كواقعة وظاهرة، والفساد كثقافة يصبح ذا وجود ملموس وحضور قوي في المجتمع وهو ينافس نقيضه «النزاهة والضمير» في الحياة العامة، وعند هذا المستوى لا تعود هناك حاجة للتستر، ولا يعود هناك خجل حقيقي من اكتشاف انتماء الفرد إلى معسكر الفساد. وفي ظل ذلك تتباطأ إمكانيات وآليات مكافحة الفساد عن العمل إما بسبب تأثير مكانة الفاسدين وكثرتهم على عمل هذه المؤسسات والإدارات، أو بسبب الحجم الهائل لقضايا الفساد وعدم توفر القدرة الإدارية والبشرية لمتابعتها. أما المستوى الثالث: فهو الفساد كسياسة متعمدة، وهذا أخطر مستويات الفساد، ويتحقق حين تلجأ السلطات بنفسها إلى اعتماد نشر الفساد، (أي اعتماد الإفساد) لمعالجة الظواهر السياسية والاجتماعية في البلد المعني. وعند هذا المستوى من الفساد تصبح محاربة الدولة للفساد هي نفسها فساداً، لأنها تتخذ من هذه الحرب أداة للتصدي للمعارضة باستخدام ملف الفساد في مواجهتها. وعند هذا المستوى فإن فساد الفرد يصبح الشرط اللازم والمسكوت عنه لتولي المناصب السياسية والإدارية والقيادية في الدولة ومؤسساتها، وحينما يتمكن فرد ما من التسلل إلى هذه المواقع وهو مبرأ من الفساد فإنه يجد نفسه محاصراً بالبيئة الفاسدة فإما أن تنبذه فلا يستطيع فعل شيء، وإما أن ينخرط فيها ويتخلى بذلك عن نزاهته. وخطورة هذا المستوى تكمن في أن تعطل آليات مكافحة الفساد والتصدي له ليس مردها العجز عن أداء هذه المهمة، بفعل دخول جرثومة الفساد إلى هذه المهمة، وإنما بفعل دخول جرثومة الفساد إلى هذه الآليات نفسها. هذا ويمكن الإشارة إلى أن الانتقال من مستوى إلى آخر أمر متاح وهو يحدث بقدر تعطل آليات مكافحة الفساد. بهذا يمكن القول إن الفساد بمستواه الأول موجود في كل المجتمعات وعبر كل العصور وهذا أمر طبيعي لأنها فطرة البشر. أما الفساد بمستوييه الثاني والثالث فهو ما يجب الوقوف عنده لأنه حين ينتشر في مجتمع ما فإن مصير هذا المجتمع يصبح على كف عفريت، وهو مجتمع مهدد بالسقوط والانحلال والتخلف. وما يدفعنا للحديث عن الفساد في هذه الآونة هو انتشار الفساد بمستوييه الثاني والثالث في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية إن لم نقل فيها جميعا.
الحبيب العزوزي (عضو اللجنة الإدارية للهيئة الوطنية للحماية المال العام بالمغرب)