شكل الاتحاد الاشتراكي، على الأقل بالنسبة للجيل الذي قد كبر وهرم نسبيا في السياسة في وقتنا الحالي، الحزب الذي عاش معه هذا الجيل "أجمل اللحظات"، لكون الاتحاد كان يشكل المتنفس والملجأ ونوع من التعبير عن التحرر والانعتاق من قبضة المخزن، بعد أن كان الحزب قد أدى جانبا من أدواره إلى جانب رجالات الحركة الوطنية، حيث تم بموجب ذلك إحراز الاستقلال من قبضة الاستعمار الغاشم. لم يتوقف الحزب عند هذا الحد بل استأنف الاتحاد أنشطته ونضالاته من أجل تحقيق المجتمع الاشتراكي المنشود، تتبوأ فيه الطبقات الشعبية مكانتها الطبيعية ويتم فيه تحقيق الآمال المرتبطة بالدمقرطة والحقوق والحريات، وهو ما تجلى في حجم الإبداع في النضال على جميع الواجهات، السياسية، الثقافية، الإعلامية، المدنية..ومدعما بجزء كبير من نخبة البلد من المفكرين والمثقفين، ومن طاقم التدريس والعمال والطلبة والتلاميذ ومن أبناء المهجر أيضا، في سياق إقليمي ودولي كان يعيش تقريبا على نفس الأجواء وعلى التدافع ومناصبة العداء إلى كل ما يمت بصلة مع ما كان يسمى وقتها بالامبريالية ومع أذيالها من الأنظمة المتحكمة. شكلت السكتة القلبية المناسبة التي دفعت نظام الحسن الثاني لمفاوضة الاتحاد في شأن تدبيره لدفة الحكم، لكي تستفيد البلاد من حجم الكفاءات والأطر التي يزخر بها الحزب، ولكي يتم امتصاص نوع من الاحتقان والغضب المخيم في الأوساط الشعبية. وهو الطلب الذي تمت الاستجابة إليه بالإيجاب، وأثمر سياسيا عن حيازة السيد عبد الرحمان اليوسفي لرئاسة الحكومة، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تحقيق العديد من الانجازات، لعل أبرزها الانفراج الذي عرفه ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقضية المرأة. طريقة تفاعل النظام الحاكم مع نتائج الانتخابات، لم تكن في مستوى تطلعات الاتحاد الذي كان يراهن على أن النظام سيواصل وضع الثقة فيه لقيادة المرحلة، سيما وأنه كان قد تصدر نتائج الانتخابات لسنة 2002 وكان يأمل في إتمام إنجاز مختلف الأوراش التي كان قد بدأها الحزب. إلا أن "عقل النظام" ارتأى أن لا يمنحه الفرصة للمرة الثانية، مما حداه لكي يخرج ببيانه التاريخي الذي ضمنه عدم رضاه على طريقة تعامل النظام معه ومع النتائج الانتخابية، حيث اعتبر ذلك خروجا عن المنهجية الديمقراطية. ورغم البيان الناري الذي خرج به الحزب، إلا أن الحزب لم يظهر بالكيفية التي كانت منتظرة منه في مثل هذه "النازلة"، حيث أوجد لنفسه تبريرا للقبول بالمشاركة في الحكومة إلى جانب التكنوقراط السيد ادريس جطو. وسيعاود الحزب الكرة في المشاركة في حكومة السيد عباس الفاسي، رغم النتائج العقابية التي حصل عليها الحزب في انتخابات 2007. أكثر من ذلك فلقد رضي الكاتب الأول للحزب آنذاك السيد محمد اليازغي أن ترجع إليه أمر تسيير حقيبة وزارية فارغة، مما تكون للرأي العام ولجزء كبير من أنصار الحزب، شبه انطباع بأن حزب الوردة هذه المرة قد انساق بالكامل وراء منطق الدولة ونسي امتداداته الاشتراكية والديمقراطية الشعبية. من جهة أخرى وبفعل التأثر الذي عرفه المغرب بفعل تداعيات الربيع العربي وحركة 20 فبراير، فقد تم فيه كما هو معروف القيام بتعديلات جوهرية على صيغة الوثيقة الدستورية، كما تم فيه توقيف العمل بالنسخة الحكومية للسيد عباس الفاسي، وتمت الدعوة إلى إقرار انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، أسفرت عن فوز الحزب الذي لم يكن يفسح له المجال لتصدر النتائج في إشارة لحزب العدالة والتنمية، ومتقدما ومن بعيد على كافة المتنافسين. وهو ما دفع الاتحاد لكي يقر بالأزمة ولكي يختار أن ينحاز إلى صف المعارضة حتى تتاح له إمكانية الانكباب على الأسئلة المرتبطة بالمراجعات وبالنقد الذاتي لأداء الحزب ولطرح السؤال المحوري ما العمل، على أمل إيجاد مخرج للوضعية المحرجة التي يوجد عليها الاتحاد. في ظل هذا السياق تم انعقاد المؤتمر التاسع للاتحاد، حيث كان مطلوبا من الاتحاد أن يفك كل هذا الخليط من التشابك بين الخيوط، ولقد عمل حزب الوردة جاهدا لكي يظهر أمام أنصاره وأمام الرأي العام إلى أنه بصدد إنجاز هذا التحول من حيث الصيغة التي اقترحها في طريقة انتخاب كاتبه الأول. حيث تم تقديم أربعة مشاريع لتطوير الاتحاد من طرف أربعة شخصيات وازنة من داخل الاتحاد، وهو ما أسفر عن حيازة مشروع السيد ادريس لشكر بثقة المؤتمرين. حرص السيد لشكر ومنذ توليه رئاسة الاتحاد على إضفاء نوع من الديناميكية على أداء الحزب من حيث محاولته تفعيل الهياكل على المستوى الجهوي والإقليمي للاتحاد، ومحاولة إنجاح مقترح الاندماج مع كل من الحزب العمالي ومع حزب الاشتراكي للم صفوف بعض مكونات العائلة الاتحادية، كما عمل على تحريك ومحاولة إيقاظ جهاز اتحاد كتاب المغرب من سباته من خلال تمكين هذا الأخير من القيام ببعض الأنشطة، إلا أنه ورغم مجموعة من النقاط الإيجابية التي تحتسب لصالحه، إلا أن الواضح أن السيد لشكر لم يعمل على تجسيد الآمال التي كان يطمح إليها كل الاتحاديات والاتحاديون من حيث التأسيس لاتحاد مغاير يستجيب لدقة المرحلة ويعاود الالتصاق بالقوات الشعبية، كما لم ينجح في أن يكون رجل تجميع ورجل نزع العديد من بؤر التوتر والنزاعات التي تسود داخل الجسم الاتحادي، كما لم ينجح في تقريب الحزب من العائلة اليسارية إذ على النقيض من ذلك كان شديد الغلظة والقساوة في مواجهة رئيسة الحزب الاشتراكي الموحد على سبيل المثال في افتتاحية نارية لم يعرف الاتحاد مثلها من قبل. في اعتقاد الكثيرين كذلك، لم يكن السيد لشكر موفقا من حيث الطريقة التي اختارها لربح نوع من الكسب الإعلامي من خلال النبش في بعض القضايا التي ليست لها راهنية تذكر، كقضايا الإرث وتعدد الزوجات، إذ بذل أن يجر "تكتيكيا" حزب العدالة والتنمية إلى ساحة هذه "المعركة الدينية"، وجد نفسه "غارق في الوحل" وفي مواجهة أشخاص وتيارات سلفية انبرت له وبدأت تتوعده بالوعد والوعيد. على أن الطريقة التي ارتمى فيها بين أحضان حميد شباط واعتبار حزب الاستقلال بمثابة الحليف التقليدي الكبير، رغم التحفظات التي يبديها جزء كبير من الاتحاديات والاتحاديون على شخص شباط بالنظر لشعبويته من جهة وللأذى الذي كان قد ألحقه بزعيم حزبهم في إشارة إلى الزعيم المهدي بنبركة، أعطت الانطباع إلى أن السيد لشكر بصدد تدبير المرحلة "تقنيا وانتخابيا" ويميل إلى نوع من تسخين أكتاف الاتحاد من أجل الكسب الانتخابي أكثر مما يميل إلى تلبية طموحات من لازالوا يتصورون في إمكانية أن يضطلع الاتحاد بنفس الأدوار الطلائعية التي لعبها في مراحل متعددة من تاريخ المغرب. من جهة أخرى، وبحكم تواجد السيد الزايدي على رأس إحدى الواجهات الهامة في المنطق الانتخابي للسيد لشكر، في إشارة إلى حيازته لرئاسة الفريق البرلماني للحزب. وبحكم الخلاف الواضح بين الطرفين المرتبط بعدم قبول السيد الزايدي لنتائج المؤتمر، حيث اعتبر الأمر فيه نوع من التدخل "المخدوم" لجهة معينة بدأت تتدخل في شؤون الاتحاد، بالإضافة إلى تشكيل الزايدي لتيار يحمل إسم الديمقراطية والانفتاح. كل ذلك ساهم في حرمان لشكر من أحد الأجنحة الهامة التي كانت ستسعفه للقيام بنوع من "المعارضة الإعلامية" من داخل دائرة قبة البرلمان، اعتبارا لكون المعارضة القوية التي كان الحزب يقوم بها من داخل المجتمع، لم يعد بمستطاعه القيام بها بعد ترهل الحزب وضعف قواه. كما صعب السيد الزايدي على لشكر المأمورية في ما يخص تنزيل "سياسة" هذا الأخير على مستوى نسج التحالفات الجديدة مع كل من حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة من داخل البرلمان. وهو ما دفع بالسيد لشكر إلى محاولة إنزال أقسى العقوبات في حق السيد الزايدي عبر استعمال ورقة الطرد، وهو الأمر الذي لم يحظى بمباركة جهاز حكماء الحزب الذي اعترض على القرار بالنظر لكون سياق المرحلة الذي يعيشه الاتحاد لن يسمح بقبول مثل هذه القرارات، مما زاد من تأزيم الوضع وتعميق مشاكل الاتحاد ودفعتها لكي تأخذ منحى مغايرا وتخرج إلى الواجهة في صيغة أربكت حتى التسيير العادي لمؤسسة البرلمان. في محاولة منه لعدم المساهمة في أي عمل بإمكانه أن يمس بوحدة الحزب وكيانه ومن ثمة يزيد في انقسامه، جنح السيد الزايدي أخيرا إلى اختيار لغة السلم بعد أن وضع غريمه السيد لشكر في الزاوية الضيقة وسلم إليه هدية ملغومة. برأي العديد من المتتبعين فلقد اختار السيد الزايدي التنحي والتنازل عن رئاسة الفريق كخطوة تاريخية ربما ستحسب له وستزيد له رصيدا من النقاط في نهج سيرته، علما بأن المؤشرات ما تزال تقول بأن المعركة بين الرجلين لم تنته بعد، وإلى أن التكتيك والتدبير المرحلي هو سيد الموقف. فهل سينجح السيد لشكر من إنقاذ سفينة الاتحاد من الغرق، أم أن الزايدي قد تفطن لسوء أحوال الطقس، وغادر السفينة مبكرا كي لا يكون سببا في إغراقها أو ضمن طاقمها المفقود، وحده المستقبل القريب بإمكانه الجواب على هذا الأمر؟ *باحث في المشهد السياسي [email protected]