رئاسة مؤتمر حزب الاستقلال تقترب من قيوح .. واللجنة التنفيذية تشعل المنافسة    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بايتاس ينفي الزيادة في أسعار قنينات الغاز حالياً    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي    الأمثال العامية بتطوان... (582)        بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    الوزير جازولي يدعو المستثمرين الألمان إلى اغتنام الفرص التي يتيحها المغرب    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    "اتصالات المغرب".. عدد الزبناء ديالها فات 77 مليون بزيادة وصلات ل2,7 فالمية    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هانئٌ في بَسْط لَغْواه: نقد "الإديولوجيا" تحت وطأة الغَواية الإديولوجية!
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2010

«"الإديولوجيا" (التي قد ينبغي من الآن فصاعدا أن تُسمى باسم آخر) لا تبدو ولا تُبْدي نفسها كما هي، ومن هذا التَّنكُّر تحصل على نجاعتها الرمزية. بإيجاز، لا يكفي أن يُطَّرح الحس المشترك العادي، ولا الحس المشترك العالِم في شكله العادي ؛ بل يجب أن تُطَّرح وسائل القطيعة التي تُلغي التجربةَ ذاتها التي ٱنبنت تلك الوسائل ضدها. وهذا من أجل أن تُبنى نماذج أشد اكتمالا، تشمل على حد سواء السذاجة الأولى والحقيقة الموضوعية التي تُخفيها والتي يقف عندها، بواسطة شكل آخر من السذاجة، أنصاف البارعين، أولئك الذين يظنون أنهم دُهاة.» (بيير بورديو[1)[
-Iتقديم
يَعْرِض "إدريس هاني" نفسه (وهو من موليد 1967) بصفته مفكرا يُمارس ما يُسميه "النقد الإديولوجي". وبصفته كذلك، فإنه يُفترَض فيه أن يكون ناقدا لأشكال التحيُّز والتضليل الإديولوجيين، بحيث يصير صاحب مقام يتميز بنوع من السُّمُوّ المعرفي والحياد الأخلاقي الذي من شأنه أن يجعله فوق كل تحيُّز وبعيدا عن كل تضليل. ويتحدد الغرض من هذا المقال (وربما فيما سيَلِيه) في تناول بعض كتاباته تمحيصا لخطابه النقدي ذاك من جهة الأسس المنهجية والمعرفية المُقوِّمة له ومدى نجاعته الإجرائية والتداولية على المستوى العربي-الإسلامي. وإذا كان كثير من نُقّاد "إدريس هاني" لا يرون فيه سوى الكاتب "المتشيِّع" أو "المُتشايع"، بحيث يُركِّزُون على فحص انتمائه العَقَدي، فينتهون إلى تجريحه وانتقاصه حتى في ما هو حق له بما واحد من الناس (حقه في الاعتقاد والتفكير والتعبير)، فإن ما يجدر تأكيده هنا هو أن هذا الانتماء لا يدخل في الاهتمام (وكذلك شخص صاحبه)، حتى لو كان صاحبه يبدو كأنه يميل إلى أن يَستثنيه من ممارسته الخاصة ل"النقد الإديولوجي". وعلى الرغم من تنوع وكثرة كتابات "إدريس هاني"، بين المقال والبحث والمؤلَّف، فسيتم الاكتفاء بما يعرضه في عموده "تحت الشمس" بموقع هسبريس، باعتباره يُقدِّم، من جهة، جزءا مما سبق له نشره في بعض كتبه ويمثل، من جهة أخرى، نموذجه الخاص في الكتابة. لكن، إذا دعت ثمة ضرورة، فقد يُشار إلى شيء من كتاباته الأخرى.
بعنوان أساسي ("ما بعد الأيديولوجيا") وآخر فرعي ("شرط في رؤية أكثر نصاعة!") نشر "إدريس هاني" مقالا (أو فصلا) آخر في عموده "تحت الشمس" بموقع "هسبريس". ويتكون المقال من مقدمة وتسعة عناوين لأقسام متفاوتة الطول. وسيتم، فيما يلي، النظر في الفقرات المنضوية تحت المقدمة والعنوان الأول ("الترجمة والأديولوجيا") من ذلك المقال، من أجل محاولة تبيُّن ملامح ما يُسميه صاحبه "النقد الإديولوجي" وما يكتنفه من انحرافات فيَؤُول به إلى "خطاب لَغْوى" (سيُستعمل، فيما يلي، لفظ "إديولوجيا" [Idéologie] بهمزة مكسورة من دون ياء مد، ليس مجاراةً للنطق الفرنسي في اتِّباعه الأصل اليوناني للفظ [Idea]، وإنما فرارا من التفخيم الذي يُلمَس في النطق الإنجليزي لِلَفظ "أَيْديولوجي" [Ideology]، مع العلم أنه حتى في هذا النطق يجوز نطق اللفظ كما في الفرنسية، ومع العلم أيضا أن مستعملي العربية لا يزالون يحتاجون إلى لفظ مناسب من الناحية اللغوية ويصلح لتأدية المعاني المطلوبة اصطلاحيا).
-IIمدخل
ينبغي، هنا، تأكيد أن الغرض من هذه المقالة يتمثل أساسا في فحص بعض كتابات "إدريس هاني" بصفته نموذجا مُمثِّلا لِما تَصِحُّ تسميته ب"خطاب اللَّغْوَى" كخطاب قائم على "الباطل من الكلام" ("الباطل" على المستوى التعبيري والتفكيري كما سيأتي تعيينه بعد حين). ذلك بأن "اللَّغْو" و"اللَّغا" و"اللَّغْوى" و"اللَّاغِيَة" في العربية كلماتٌ تُستعمل بمعنى "السَّقَط وما لا يُعتَدّ به من كلام وغيره" أو "ما كان من الكلام غير معقود عليه"، أي "ما لا يُحْصَل منه على فائدة ولا نفع" أو، بشكل عام، "الباطل" سواء أكان كلاما أم غيره. ولأن "الكلام" تعبير –بهذا القدر أو ذاك- عَمّا في نفس صاحبه بواسطة قول شِفاهي و/أو كتابي، فإن كون الباطل منه قد يزدوج بباطل من الفكر (بالمعنى العام) يجعل "اللَّغْوى" المقصودة خطابا لغويا وفكريا يُؤتى به من دون رَوِيّة أو تدبُّر كافيين، من حيث إن "صاحب اللَّغْوى" يستسهل أمر الكلام والفكر إلى الحد الذي يكون فيه مَيّالا إلى الخروج عما يَحكُمهما من قواعد، مما يجعلُه يُبطِل (أو "يُلغي") المنطق الخاص بكل من الكلام والفكر ؛ ومن ثم، فإنه "يَلْغُو" أو "يَلْغى" ب"رَصْفِ كلمات إلى جانب كلمات أخرى" (Logologie) أو ب"الاعتناء بالألفاظ في ذاتها على حساب الفكر" (وهو ما يُسمى في الفرنسية بلفظ « le verbalisme »، لكن من دون أي حاجة إلى نحت اسم بلاحقة المبالغة ["لَغْوَانية"] كما يفعل "إدريس هاني" في إصراره على إخضاع لفظ "لَغْو" أو "لَغْوَى" للصورة الصرفية للَّفظ الفرنسي من غير داعٍ سوى التكلُّف من أجل الاستثارة).
ومن المؤكد أن احتراف "خطاب اللَّغْوى" بهذا المعنى يُعَدّ ممارسةً خاصة بمعظم "المُتَرسِّلين" (les essayistes) الذين يقفون، بفعل شروط اجتماعية وثقافية مرتبطة بتكوينهم واشتغالهم في مجالاتهم الخاصة، دون المستوى الصارم المتعارَف بين مُحترفِي الخطاب الآخرين (مثلا، الباحثون في مجال العلوم عموما، وأيضا الفلاسفة والنقاد من أصحاب الكتابة النَّسَقية). وعلى الرغم من أن "خطاب اللَّغْوى" -من حيث إنه يُمثِّل نوعا من الممارسة الاحترافية للتضليل والتدجيل (imposture)- يوجد في كل الميادين على مستوى كل المجالات القومية أو الوطنية (تُعدُّ "فضيحة سُوكال" خير مثال[2])، فإن فُشُوَّه في "المجال العربي-الإسلامي" قد يصعب العثور على نظير له في العالم كله، بسبب كون هذا المجال لا يزال يعرف هشاشة تمس كل القطاعات بشكل يمنع من قيام حقول مستقلة تضبط اشتغالها قواعد واضحة وصارمة تفرض نفسها، بهذا القدر أو ذاك، على الفاعلين في كل حقل.
وعموما، إذا كان "خطابُ اللغوى" ممارسةً احترافية للخطاب تقوم على الِاستسهال المُفْرِط في استعمال اللغة والمُفَرِّط في "الانعكاسية النقدية" (Réflexivité)، فإن المرء لا يَعْدَم أن يجد أمثلة عليه في كل بلد حتى بين أشهر الكتاب على المستوى العربي-الإسلامي، حيث إن كثيرا من هؤلاء لا يترددون -في معظم الأحيان- عن إتيان ممارسة الخطاب بشكل متساهل، ليس فقط من جهة استعمالهم للعربية (من المعروف أنهم يكادون، في معظمهم، يُخطئون في استعمالها على كل المستويات)، بل أيضا من جهة غياب التحقيق المعرفي والضبط المنهجي فيما يُمارسونه من أشكال التفكير والتعبير. ذلك بأن أول ما يستطيع الملاحِظ تَبيُّنه، بخصوص الإنتاج الفكري في المجال العربي-الإسلامي المعاصر، إنما هو ضُعف المَلَكة اللغوية لدى معظم الذين أخذوا يتعاطون الكتابة منذ نهاية السبعينيات. ويبدو أن كثيرا من أدعياء الكتابة بين العرب والمسلمين لم يَظهروا بعد على الانقلاب الذي يُمثله فن الكتابة، ليس فقط في التاريخ البشري (مثلا، أعمال "جاك غودي"، "إريك هافلوك"، "ولتر أونغ")، بل أيضا في العمل الفكري (هيدغر، دريدا، فتغنشتاين، بورديو). ومن البَيِّن أن من كان يستهين ب"نسق اللغة" إلى الحد الذي لا يتردد معه في خَرْق أهم قواعده، فلن تكون حاله مع "نسق الفكر" إلا أسوء. لذا، فإن من يَعْرِض نفسه بصفة الكاتب ولا يجد ضرورة لتحرير كتابته بمراجعتها وتنقيحها إلى أن تستقيم أقواله وتستحكم أجزاؤها ترتيبا وتوقيفا، لا يُمكنه البتة أن يكون مفكرا مقتدرا للخوض في أصناف البناء والإحكام است-شكالا واست-فهاما واست-دلالا. وكثيرون هم أولئك الذين يُقدمون أنفسهم بتلك الصفة ولا يلتزمون بأي شيء من مقتضياتها، بل تراهم مستعجلين إلى حدِّ نَصْب المرفوع ونسيان نُقَط الإعجام وإساءة وضع علامات الوقف في محالِّها وتقديم ما ينبغي تأخيره أو العكس!
ولعل مما يُعزِّز الميل إلى الاستخفاف بالكتابة النَّسَقِية أن هناك خلطا شائعا بين "النسق" ك"نظام تُرتَّب فيه الأشياء" (التنظيم الصارم والمتماسك) و"النسق" بمعنى "الكل الجامع لشتات الأشياء" (التبحر الموسوعي أو الإحاطة الشاملة). ومن هنا يأتي رفض بعض الكتاب والمفكرين للتنسيق الصناعي للخطاب، حيث يَؤُول بهم رفضهم ذاك إلى الاستسلام الكلي للكلام التلقائي (على شكل ثرثرة بلا قيد ولا شرط)، وهو استسلام يتجلى فيه الخضوع التام للعادة (بفعل الكسل أكثر مما هو بسبب آخر)، بل إن رفض "النسقية" باسم "العفوية" و"التلقائية" (التى تُسمى "طبيعية") وُقُوع في وهم مُفاده أن الخطاب بصفته هذه يسمح بنقل مباشر وحقيقي للتجربة الحسية. ومن ثم، فإن حديث بعضهم عن "لغوانية" الكتابة النسقية (إلى حد خلطها ب"المنطقانية" لتنقُّصهما معا) يُراد به القول بأن عدم التحكم الصناعي في اللغة يُمَكِّن -وهو وحده- من قول حقيقة الواقع الموضوعي، وهو قول يُغفل أنَّ ترك الطبع اللغوي على تلقائيته يجعله يَنقُل ويُكرِّس فلسفة كاملة تُناقِض، في معظم الأحيان، غرض بناء حقيقة الواقع المُراد وصفه أو تفسيره [3[.
وهكذا، فإن التَّهرُّب من الكتابة النسقية ومناهضتها -سواء أكان ذلك باسم مباهج "فلسفة النَّقْض" أو باسم إغراءات "ما بعد الحداثة"- يُعبِّر في العمق، لا فقط عن ضعف المَلَكة اللغوية لدى كثير من الكتاب العرب، بل أيضا عن هزالة زادهم من مكاسب أهم المجالات المعاصرة (المنطقيات، اللغويات، فلسفة اللغة، المعرفيات، اجتماعيات المعرفة). ذلك بأنه قد صار من الثابت، بناء على تلك العطاءات، أن من كان لا يَحْكُم (ويُحْكِم) لغته بمزيد من التمكن المعرفي، فهو بالأحرى محكوم لها لاشعوريا، أي أنها هي التي تَحْكُمه بالفعل. ومن ثم، فإذا كان "فتغنشتاين" يقول إن "حدود عالمي إنما هي حدود لغتي" [4]، فإنه يَصِحّ أن يُقال "إن حدود إدراكي لِلُغتي إنما هي حدود إدراكي للعالم، بل حدود فاعليتي فيه". ولذا، لا تكون اللغة بانيةً بما هي بيانٌ إلا في المدى الذي أمكن للمرء أن يعي عمليا أن كونه مَبْنيّا بها كمتكلم إنما تَأتَّى من حيث إنه اكتسب، بواسطة التنشئة الاجتماعية، القدرة على استعمالها كأدة للبيان والبناء، مما يُوجب الحرص الدائم على تَبيُّن مُحدِّدات وتَبِعات الاشتغال الآلي (أو التلقائي) للطبْع اللغوي.
من أجل ذلك، نجد أن الفكر العربي والإسلامي، لكونه يميل بقوة نحو التهرُّب من الكتابة النسقية (بفعل أسباب اجتماعية وتعليمية يتم تجاهلها في الغالب)، لا يتحدد -بحسب ما هو متعارف عالميا من ممارسة الخطاب الفكري- سوى كفكر شديد الضحالة والهشاشة لغَلَبة التقليد والجمود عليه إلى حد بعيد. ومن هنا، يأتي هذا العمل لتناول نموذج يُمكِن أن يُعدّ بمثابة المآل الطبيعي لكل الأمثلة التي سبقته في هذا المجال. وعسى أن يكون في هذا التناول النقدي من الفائدة ما يُسهم في تحريك الهِمَم للعناية بأمر الكتابة الفكرية النسقية وَفْق الضوابط المقررة في أكثر من ميدان.
-III"ما بعد الإديولوجيا" نقد إديولوجي أم نقد علمي؟
يستهل "إدريس هاني" مقدمة مقاله بنفي أن تكون "ما بعد" في العنوان دالة على إرادة الإمساك بشيء ما («ليس الغرض من هذه البعدية أن نقبض على شيء ما.»). وإذا كان حديثه عن "ما بعد" الإيديولوجيا يَنفي إمكان الإمساك بشيء من خلاله، فهذا معناه أن غرضه كخطاب هو "لا شيء"، وهذا "اللاشيء" هو الذي يُسمَّى في العربية "الباطل" أو "اللغو". هكذا يُعلِن عن نفسه "خطاب اللغوى" منذ أول جملة بصفته خطابا يدور كثيرا ولا يُمكِّن من شيء أخيرا. ويُعلل الكاتب انتفاء تلك الإرادة بأنه «ليس بعدَ الأيديولوجيا سوى عماء الفكر.». ومن دون أن يُكلف نفسه تحديد المقصود بلفظ أو مصطلح "إديولوجيا"، ينتقل إلى جعل "ما بعدها" مجرد "عماء للفكر". وكما يتم المرور بسلام على الالتباس المُميِّز للفظ ومصطلح "إديولوجيا"، فإن المركب اللفظي ("ما بعد الإديولوجيا") لا يتعين لا باعتباره بمعنى "التُّلُوّ" (ما يأتي تاليا غيره) أو "التجاوز" في المقابل الأجنبي (Post-) في مصطلحات مثل "مابعد البنيوية" (Post-structuralism) أو "مابعد الحداثة" (Post-modernity)، ولا بجعله مماثلا للسابقة اليونانية "ميتا" (méta) كما في مصطلحات مثل "ميتافيزيقا" و"ميتالغة" و"ميتارياضيات" وحتى "ميتافلسفة" في الإشارة إلى مبحث فوقي يَنْصَبُّ على فحص أصول ممارسة ما. ويُضاف إلى هذا ٱلتباس ثالث من خلال عدم تحديد المقصود ب"عَمَاء الفكر". فإذا كان لفظ "العَماء" يدل لغويا على "السحاب" (أو "السديم")، وصار يدل منذ "أحمد أمين" (1918) على مقابل اللفظ الأجنبي (chaos) بمعنى "حالة التشويش التي تكون عليها المادة قبل الخلق" [5]، فكيف تُفهَم عبارة "عَمَاء الفكر"؟ هل تُفهم بالرجوع إلى هذا المعنى ("التشوُّش" أو "الخَوَاء") أم بالإحالة إلى المعنى الفلسفي المعاصر (بالخصوص مع "جيل دولوز": «ذلك الزَّخم الدائب من الإمكانيات من كل نوع، إدراكية، وجدانية، فكرية، التي تشترك في طابع وحيد هو كونها عشوائية وغير متصلة فيما بينها، حيث إنه ليس حالة بلا شكل ولا خليطا مشوشا، وإنما هو محلٌّ لصيرورة لَدِنة ودينامية تنبثق منها على الدوام تعيُّنات تَنْوجد وتفنى بسرعة لانهائية.» [6]، أم باعتماد المعنى العلمي في الفيزياء ("الوضع الشديد التعقد، غير المُطَّرد وغير القابل للتوقع على مستوى الأنساق الدينامية"[7])؟! وهكذا، يزدوج "عماء الإديولوجيا" كمصطلح بعماء "ما بعد الإديولوجيا" الذي هو، كما في ظن الكاتب، "عماء الفكر" نفسه. وكل ما نتلقاه بعد ذلك من "هاني" إنما هو «[أن "الإديولوجيا" صَنَعت تاريخ البشر في الماضي وتصنع مستقبلهم أيضا. فهي، في زعمه، قد اتَّسعت لتحتوي عالم البشر بعد أن استوعبت كل مُخيلتهم بشكل جعل (ويجعل) الإنسان لا يفعل في حُلمه وتخيله وفكره إلا وَفْق ما يقتضيه "منطق الإديولوجيا". وبالتالي، فإن "الإديولوجيا" بمثابة القَدَر المحيط بوجود وفعل الإنسان. ومن هنا، يأتي التطلُّع إلى "ما بعد الإديولوجيا"، وهو تطلُّع يُعدّ أشد الأوهام رواجا حينما يغيب "النقد الإيديولوجي".]». تُرى، إذا كان "ما بعد الإديولوجيا" مجرد وهم ولا يقبل أن يُحدَّد إلا على نحو سَلْبي ك"عماء"، فمن أين يمكن ل"النقد الإديولوجي" أن يحصل على مشروعيته المنهجية والمعرفية؟ كيف يَصِحّ أن يقوم شيء ما يَقبل، رغم ذلك، أن يُحدَّد ك"نقد إديولوجي" (أو، بالأحرى، "نقد للإديولوجيا") في ظل غياب معايير واضحة ومناسبة للفصل بين "الإديولوجيا" كشيء متميز و"ما بعدها" كشيء مُشَوَّش، بل ك"لا شيء"؟ إن مثل هذه الأسئلة لا تكاد تدور بِخَلَد الكاتب الذي يأخذ ما يُسميه "النقد الإديولوجي" كمُعطى بديهي يُمثِّل المخرج الوحيد للتخفيف من "عراء الزيف الإديولوجي". ولهذا يجب، في نظره، «[تصعيد ذلك النقد إلى مُنتهاه، لأن قُصارى ما يملكه البشر إزاء "الإديولوجيا" هو تصعيد الوعي بها. فالوعي هو وحده من يُخلص الإنسان من بطش "الإديولوجيا" واستدراجاتها للإنسان نحو "الوعي الشقي"].». وكون الكاتب لم يتساءل عن شروط إمكان نقد "الإديولوجيا" منهجيا ومعرفيا هو ما يجعله يُعطي هذا النوع من النقد مُهمة أو رسالة خلاصية/تخليصية قائمة على "تصعيد الوعي" و، من ثم، إنقاذ الإنسان من الشقاء الوجودي والوجداني. ولعل ما لُوحظ، منذ البداية، من عدم الرغبة في تحديد "ما بعد الإديولوجيا" ليس سوى حيلة من الكاتب للتمكين لما صار الآن قائما بين يديه في صورة مولود خالص من "الدنس الإديولوجي"، مولود له في مهده القدرة على مخاطبة الناس بخطاب الوعي المُخَلِّص! ولذا، يأتي القول بأن الحديث عن "ما بعد الإديولوجيا" (بمعنى "نهاية الإديولوجيا" وتجاوزها نحو غيرها مما ليس إديولوجيا) ليس في محله، إذا ما نُظر إليه نظرة سطحية ظاهرية (نظرة تقول بإمكان الخروج من "الإديولوجيا" بصورة حقيقية أو نهائية).
فأنت تَرى أن الامتناع عن القول ب"ما بعد الإديولوجيا" لا يأتي بناء على تبيُّن الكاتب لشروط إمكانه منهجيا ومعرفيا (أي تحديد الشروط الموضوعية الكفيلة بتجاوز الخطاب الإديولوجي نحو شيء آخر يتحدد بأنه "غير إديولوجي"، إما بصفته "علما موضوعيا يشتغل بتوصيف وتفسير الواقع" وإما بصفته "نقد فلسفيا يشتغل بتبيُّن إمكانات وحدود الخطاب البَعْدي كخطاب بشري"). ومن ثم، فإنه من الطبيعي (بناء على ما سبق ترتيبه من قِبَل الكاتب) أن يُدرَك أن أي حديث عن "الإديولوجيا" يستدعي بنفسه الحديث عن "ما بعدها"، حديث يقود إلى تحديد هذه "البعدية" المقصودة (من قِبَل الكاتب). ومن هنا يقول "هاني" إن «التصور الحقيقي للأيديولوجيا لا يتم إلا بتصور ما بعدها، أي تصور العماء الذي يترتب على الفراغ الأيديولوجي، باعتبار الأيديولوجيا ضرورة.». ف"ما بعد" الإديولوجيا ليس "عماء" إلا بمعنى كونه "فراغا إديولوجيا" غير ممكن (أو مستحيل وخطير). وبما أنه غير ممكن، فهو إذن ضروري ("ضروري" بمعنى "جائز" أو "مشروع" أو حتى "طبيعي"، لأن الانتماء الإديولوجي ليس ممنوعا، بل هو حق في الحياة! وأنت ترى أن "ضروري" هذه ليست بمعنى أنه "محتوم بفعل أسباب تَضطَرُّ الإنسان إليه"، أي أسباب خارجة عن إرادته ووعيه، وهي الأسباب التي يجب أن تُكشف علميا ضرورتُها الاجتماعية والتاريخية المُحدِّدة لها كاعتباطيٍّ وجوديٍّ والمُبرِّرة لها كشيء طبيعي وبديهي!). وهكذا، فإن السبب في تناول "الإديولوجيا"، ليس هو –يقول هاني- «التدفق الكبير لخطاب النهايات الذي بات يحتل فراغات الانسحاب الإيديولوجي بمعناه التقليدي، ويتساقط كبديل عن الانتظارات التي لا زالت تؤرق البشرية، على إثر رضات التحولات الإديوستراتيجية الكبرى فحسب، بل إن دافعنا كان هو ما لا حظناه من سوء استعمال لهذا المفهوم الذي قَلَّما تُستحضر إشكاليته عند الاستعمال.». فما يبرر تناول "الإديولوجيا" ليس وجود خطاب حول النهايات (نهاية عصر الإديولوجيا، نهاية المجتمع الصناعي، نهاية الحداثة، نهاية التاريخ، إلخ.)، وهو خطاب لا يرقى إلى مستوى البديل حتى إن كان يُقدِّم نفسه بتلك الصفة، لأنه يكتفي فقط بملء "الفراغ الإديولوجي" (بعد نهاية الحرب الباردة وانسحاب "الإديولوجيا" اليسارية والاشتراكية من ميدان الصراع) والاستجابة للانتظارات المؤرقة للبشرية ؛ وإنما هو وجود استعمال سيء لمفهوم "الإديولوجيا" يُغيِّب طابعه الإشكالي الذي يُحدده "هاني" بقوله «هكذا امتلأت خطاباتنا ومقالاتنا وانتفخ كلامنا وإعلامنا بالحديث عن الأيديولوجيا كما لو كانت محض علم للأفكار أو منظومة فكرية أو تعبير ساذج.». ويُمككنا أن نلاحظ أن تبرير "النقد الإديولوجي" على هذا النحو يُؤكد فقط ممارسته ك"خطاب لَغْوَى"، لأن كل المفاهيم ذات طابع إشكالي حتى في مجالات استعمالها الخاصة، ولأن مفهوم "الإديولوجيا" بالأخص تواطأ الدارسون على الإقرار بالتباسه الشديد وعدم كفايته الإجرائية إلى حد أن بعضهم لا يستعمله إلا بهذه الصفة للدلالة على تَفلُّت الواقع الإديولوجي نفسه المراد توصيفه أو تفسيره بما هو واقع فاقد لكل تحديد. فنحن، إذن، أمام "خطاب لَغْوَى" يتبنى ما يُسميه "نقدا إديولوجيا" لأنه يأبى بالضبط الانخراط في السيرورة الواقعية لتجاوز أنواع السذاجة التي يكتفي "أنصاف الدُّهاة" إما بإقرارها كواقع بشري لا مفر منه وإما باستنكارها كأحد أقوى العوامل في مآسي التنازع بين البشر. ويبدو أن "هاني" لا يجد خيارا آخر سوى تقرير ما هو حاصل بالفعل منذ عقود. إذ يقول في الجملة الأخيرة من المقدمة: «والحق أن هذه العبارة التي تُطلَق عفو الخاطر تختزل أعقد الإشكاليات التي واجهتها ولا تزال المعرفة الإنسانية.».
إنه لا يخفى أن استعمال مصطلح "إديولوجيا" -في واقع يَتَّسم بشدةِ التنازع وصعوبة إيجاد وسائل للفصل المُميِّز بين الأشياء والأحداث- يدل، في العمق، على التضليل المرتبط ب"الإديولوجيا" كلانهائية من التلوُّنات والتنقُّلات في مجالات التداول العامة المتعلقة بالحياة الإنسانية. ومن ثم، فبدلا من تأكيد أن المشكلة يمكن حلُّها بجعلها قابلة للاختزال كأحد أعقد الإشكالات التي كانت ولا تزال تُواجه العمل المعرفي للإنسان، كان يجدر بناقد "الإديولوجيا" أن يدل على السُّبُل التي يُفترض فيها أن توصلنا إلى التعامل مع مشكلات المعرفة كما هي مطروحة الآن في مختبرات الاشتغال الخاصة بأهم المجالات المعرفية المعاصرة (فلسفة اللغة، فلسفة الذهن، العلوم الاجتماعية، العلوم التَّعَرُّفية) التي من شأنها الإجابة، بهذا القدر أو ذاك، عن الأسئلة القائمة بصدد كيفيات الاعتقاد والامتثال السارية في المعيش اليومي للناس. ومن ثم، فإن "النقد" لا يكون مُؤسَّسا ومُنتِجا إلا باستناده الوثيق إلى عطاءات تلك المجالات في إطار عمل للبحث تَكُون "الانعكاسية النقدية" أحد لوازمه المُقوِّمة بصفتها المشترك الأساسي في سيرورة لانهائية من "التنسيب المتبادل" (inter-relativisation) غايتها تفعيل أدوات "التوضيع" (objectivation) لتحديد نسبية "وجهات النظر" بما هي "رُؤى" تتم، دائما وضرورةً، بالنسبة إلى "وجهات" (أو مواقع) مُحدَّدة اجتماعيا وتاريخيا.
يُمكننا، إذن، أن نُدرك من خلال تحليل المقدمة أن "إدريس هاني" لا يتعاطى ما يُسميه "النقد الإديولوجي" بناء على تبيُّن منهجي ومعرفي يقود إلى الكشف عن شروط إمكان نوع آخر من الخطاب يتحدد أساسا بكونه يتجاوز "الإديولوجيا"، من حيث إنه خطاب يكشف عن الأسباب الموضوعية والذاتية التي تُفسر كون "الإديولوجيا" تفرض نفسها بكل مظاهر الضرورة على الناس في مجتمع أو عصر معين ؛ وإنما يقوم "هاني" بذلك بداعٍ إديولوجي آخر لا يُريد، ليس فقط أن يُفصح عن نفسه تنكُّرا وتستُّرا، بل أن يسعى بِجِدٍّ إلى امتلاك الأدوات المناسبة التي تجعل صاحبه يَظهر على الشروط المُحدِّدة لاعتباطيته كداعٍ إديولوجي خاص (باعتبار تعدُّد الدواعي والاختيارات الإديولوجية باختلاف المجتمعات والعصور)، وكذا المُحدِّدة لضرورته بالنسبة إلى من يأخذه بصفته طبيعيا وبديهيا (كما هو حال من يعتقده من الناس العاديين).
إن تبيان التضليل الذي يكتنف دعوى "النقد الإديولوجي" عند "إدريس هاني" ليس معناه القول باستحالة الانفكاك عن "الإديولوجيا" أو امتناع الخروج من دائرتها إلى مجال يتجاوزها، وإنما هو إبراز لأهم الانحرافات التي تطبع ذلك النوع من النقد فتؤول به إلى حضن "العَماء الإديولوجي"، بل "العمى النقدي" من خلال انزلاقه إلى "الإنكار" (بالمعنى الفرويدي) الذي يكتسي لَبُوس "النقد الإديولوجي" والذي يستهدف، من خلال اتخاذه سبيل "خطاب اللغوى"، الانتقاص من الأهمية التنويرية والتحريرية للعملين "العلمي" و"الحِكْمِي" بصفتهما عملين ينهضان بتبيُّن الشروط الموضوعية والذاتية المُقوِّمة لتحقُّق المعقولية البشرية كاستكمال دائم. ف"الإديولوجيا"، على مستوى الحياة العادية للناس، ليست مشروعة ومقبولة فقط لأنها تبدو طبيعية بالنظر إلى الشروط المحدِّدة للوجود والفعل البشريين، وإنما لأنها لا تكون كذلك إلا في المدى الذي تُجهَل هذه الشروط المحدِّدة لتكوُّنها واشتغالها في إطار البنيات الاجتماعية للسيطرة. ومن هنا، فإنها لا تُقبَل كنوع من "البداهة العُرفية" (ما يبدو "معروفا" و"متعارفا" فيفرض نفسه ك"عُرْف" يُقبَل من طرف الجميع كما لو كان بديهيا) إلا بقدر ما تُستبعَد من المُساءلة المنهجية التي تُخضعها لمعايير المعقولية كبناء مُحدَّد تاريخيا واجتماعيا، بحيث يمكن إثبات أن "الإديولوجيا" لا تصلح لشيء سوى أن تُمتَحن باستمرار لتعيين موقعها في عمل إعادة إنتاج بنيات السيطرة على مستوى مجال اجتماعي وتاريخي ما، وليس من أجل أن يتم السعي -بكل التكاليف المحتملة- إلى معرفة مدى جدارتها بالتلقي والقَبُول. وهكذا يتجلى أنه لا شيء أشد سُخْفا، في "النقد الإديولوجي"، من كون صاحبه يأخذ لفظ "إديولوجيا" نفسه مع تفخيمه "أَيْديولوجيا" كما لو كان مصطلحا لا يقبل أي مراجعة، بل كما لو كان مفهوما ذا كفاية إجرائية لا نظير لها في كشف المُضمرات واطِّراح المُسبقات، في حين أنه ليس سوى مفهوم مغشوش ومدخول لا يُبقيه حَيًّا سوى الحرص على ممارسة "خطاب اللغوى" كخطاب يشتغل بالباطل من اللغة والفكر فيُحرَم، من ثم، من الذهاب إلى أبعد حد في تقليب "المَبْنِيّ مُسبقا" (سواء أكان لغة أم فكرا) بحثا عن أنسب وأنجع السُّبُل في البناء والبيان التي من شأنها تعطيل التنظير بدون حواجز واقية (حواجز تَحمي المُتهوِّرين أو غير المتبصرين من أن يَهِيموا في وديان "خطاب اللغوى"). ولعل في هذا يكمن التعبير الأصيل عن الوظيفة الإبستمولوجية التي مَثَّلت ولا تزال الرهان الأساسي ل"علم الْفِكَر" (« idéo-logie ») كنقد موضوعي لأشكال الانحراف والتحريف المُلازِمة للفكر في استعماله العملي والنفعي في الحياة العادية، وهي الأشكال التي بقدر ما تُعدّ فضاء ضروريا للوجود والفعل البشريين، فهي تُمثِّل عائقا معرفيا أمام تطور المعقولية على الرغم من كونها تتدخل بهذه الصفة كشرط إمكان في العمل التعقيلي كتصويب وتصحيح لأشكال الخطإ. ومن ثم، فإن تهريب مصطلح "الإديولوجيا" من "الإبستمولوجيا" وجعله معيارا للفصل في مختلف النزاعات الاجتماعية يدل على نوع الرغبة التي تَستبِدُّ بأفعال الناس وتجعلها، بما هي مجرد "رغبة في الغَلَبة"، تميل إلى مُناهضة "الانعكاسية النقدية" المُؤسَّسة فلسفيا والمتبصرة علميا (الرغبة في المعرفة).
-IVنقد الترجمة الفلسفية بين إديولوجيا التفلسف وعلم الترجمة الفلسفية
يَدَّعي "إدريس هاني" أنه ينبغي، في المجال العربي-الإسلامي، أن يتم الربط بين "الترجمة" و"الإديولوجيا" وليس بين "الترجمة" و"الفلسفة" من أجل تناول أزمة نقل الفكر الغربي إلى المجال العربي («كان أحرى أن نربط بين الترجمة والأيديولوجيا بدل الربط بينها وبين الفلسفة في تقويم أزمة المنقول الفكري الغربي إلى المجال العربي.»). وهو بهذه الدعوى يُناقض دعوى أخرى اشتهرت بالخصوص مع الفيلسوف "طه عبد الرحمن" (في الجزء الأول من كتابه "فقه الفلسفة": الفلسفة والترجمة"، 1995، وسبق له أن تكلم عن بعض الجوانب منها في "تجديد المنهج في تقويم التراث"، 1994). ونُلاحظ أن "هاني" لا يُكلف نفسه حتى ذكر اسم صاحب الدعوى (طه عبد الرحمن)، ولا يجد داعيا لاستعراض أهم مضامين دعواه والرد عليها بدفع أدلتها التفصيلية، وإنما يقفز على مئات الصفحات (الممتلئة استشكالا واستفهاما واستدلالا) ليعرض أطروحة مضادة! وصنيعه هذا يُوقعه في خطإ منهجي واضح يجعله يُقدم نفسه مُدَّعيا بدل المُدَّعي الأصلي (آفة اغتصاب الوظيفة)، في حين كان عليه أن يقف عند فحص الدعوى وتبيُّن مدى مناسبة الأدلة المقدمة لإثباتها. ولذا، فإن كل كلامه حول ربط الترجمة بالفلسفة وانتقاد اجتهادات "طه عبد الرحمن" لا وجاهة له بهذا الصدد. وإلا، لو كانت الأمور تستقيم على هذا النحو لأمكن مواجهته، هو نفسه، بعشرات الدعاوى التي تربط "الترجمة" بأشياء أخرى غير "الإديولوجيا" (أو ربط هذه بما لم يربطها به) تُيسِّر الاعتراض على كل ما يقول بصرف كلامه إلى مَنَاح لم تخطر على باله. وهذه الآفة شائعة بين أدعياء النقد ممن يتعاطون "خطاب اللغوى" ولا يكادون يُميزون بين شروط عرض الدعوى وسُبُل الاعتراض عليها بمنع أدلتها.
لذلك، فإن ما يأتيه "هاني" بعدُ من كلام عن "المفاهيم" و"المصطلحات" وعلاقتها بالثقافة والحضارة ضرب من الكلام النافل يُمهد به بشكل مناسب لغرضه الذي ليس شيئا آخر سوى "التشغيب" باسم "النقد". وعلى الرغم من هذا كله، فإن فحص أقواله يبقى ذا فائدة، لأنه يكشف عن غوائل "خطاب اللغوى" في مكتوباته التي يريد بها أن يظهر بمظهر الناقد الحصيف والمفكر الألمعي بين من يَعُدُّهم زمرة من أصحاب المشاريع المغشوشة.
-1إن صلة "الفلسفة" ب"الترجمة" أوثق من أن تحتاج إلى تدليل، ليس فقط لأن "الفلسفة" كانت موضوعا للترجمة منذ أقدم العصور، ولا لأن التفلسف إبداع خطابي يتحدد بالأساس كبيان بلاغي خاص بحسب اختلاف اللغات، وإنما لأن عمل الترجمة نفسه ظل مرتبطا بالتصورات الفلسفية لِلُّغة في علاقتها بالفكر (أهم النظريات في الترجمة ذات أصول فلسفية). ولعل الكتابات في هذا المجال أكثر من أن تُحصى [8]. وإن تكن ثمة حاجة، فيكفي المرء أن يتأمل عملا رائدا أشرفت عليه "باربارا كاسان" وصدر في فرنسا منذ بضع سنوات ("القاموس الأوربي للفلسفات: قاموس ما لا يَقبَل الترجمة"، 2004، في أكثر من 1500 صفحة، [9]). ومن حيث إن هناك علاقة قائمة بين "الفلسفة" و"الترجمة"، يَصِحُّ بالتبعية الحديث عن "الإديولوجيا" في صلتها بالترجمة الفلسفية، بل لا يصح هذا الحديث إلا في إطار "علم الممارسة الفلسفية" (الذي سماه "طه عبد الرحمن" ب"فقه الفلسفة"). لكن كون "الترجمة" صارت موضوعا لعلم مستقل ("الترجميات" في مقابل [traductologie]) يجعل الترجمة الفلسفية، هي أيضا، مدعوة لمسايرة مقتضياته، بحيث يكون مشروع "طه عبد الرحمن" في "فقه الفلسفة"، بما هو "علم الممارسة الفلسفية"، قد جاء وَفْق تلك المقتضيات. وإذا كان الأمر يتعلق بعمل يُقدم نفسه بصفة "العلم"، فإنه يُفترض فيه أنه يُناهض "التحريف الإديولوجي" ويعمل على إبطال آثاره كما تتجلى في أشكال الفساد المميزة لنقل الفلسفة الأجنبية إلى مجال التداول العربي-الإسلامي. ومن هنا، فإن أي نقد يُمارس على عمل "طه عبد الرحمن" في "فقه الفلسفة" مُطالَب بأن يكون نقدا علميا مُؤسَّسا، على الأقل، من الناحية اللسانية والترجمية. أما ما أراده "هاني" من التعرض لذلك العمل من زاوية ما يُسميه "النقد الإديولوجي"، فلا يُعبِّر إلا عن سوء الفهم. وحتى نتمكن من إثبات هذا، فإنه لا بد من النظر في أقواله ومدى مجيئها على مقتضى "النقد العلمي" الفاضح لانحرافات "الإديولوجيا" كما قد يدعيه:
-2 يقول "هاني" بأن المفاهيم والمصطلحات لا قوة لها ولا نفاذ إلا بالنسبة إلى الوضع العام للثقافة كمناخ مزدهر وطليعي. لكن هذا القول لا يترتب عنه بالضرورة أن المفاهيم والمصطلحات لا يمكن استنباتها في أوضاع ثقافية متردية. وإلا، فإنه قول يُوقِع في حلقة مفرغة: لإنتاج المفاهيم والمصطلحات ذات القوة والنفاذ، لا بد من ثقافة أو حضارة مزدهرة ؛ وهذه لا بد لها من مفاهيم ومصطلحات ذات قوة ونفوذ! فأين هي، في هذا، البيضة والدجاجة؟! وما دام العرب والمسلمون في بيئة حضارية وثقافية متردية، فليس أمامهم سوى قَبول الوضع كما هو أو تبني إنتاجات الغير كما هي. فكيف تتم زحزحة هذا الوضع؟ وما السبيل إلى الإبداع المستقل؟ حقا، لا شيء يأتي من "فراغ"، لأنه ليس ثمة "فراغ مطلق". ولكن، لكي يتم الانتقال إلى ملاء الإنتاج والإبداع في الصنائع والعلوم من موقع القوة، فلا بد من معرفة أقوم السُّبُل إلى ذلك. وأكيد أن سبيل "اللغوى" ليست بالسبيل الأقوم إلا بالنسبة إلى "المُبْطلين" و"البَطَّالين". وهذا ما يُبرِّر الحديث عن "المفاهيم" و"المصطلحات" بشكل عام يفتقد كل دقة. ذلك بأن أسماء العلماء والفلاسفة والشعراء الذين أبدعوا في بيئات متردية من الكثرة بشكل لا يَحُدّه حصر، لأن التردي هو نفسه قد يتدخل كعامل تحفيز وتَحَدٍّ يقود إلى النهوض والمقاومة. وفضلا عن هذا، فإن الاستقلال النسبي لمجال الفكر يجعله قادرا، في كثير من الأحيان، على تجاوز عوامل التردي والانحطاط. وإلا، فكيف نفهم حال من يتكلم عن "الإبداع" في خضم الواقع المتردي للعرب والمسلمين اليوم؟
-3لا شك أن أزمة "المصطلح" و"المفهوم" على المستوى العربي-الإسلامي وضع قائم. فهناك فوضى عامة إلى جانب العجز عن الإبداع والتقليد في الاستعمال. لكن كيف يُفسر هذا الوضع المتأزم؟ ليس برده إلى التنازع بين المتنافسين في حقول الإنتاج كما يفعل "هاني"، لأن هذه هي الحال الطبيعية حتى لدى الأمم الرائدة، بل إن التنازع والتنافس يُعدَّان -من الناحية السوسيولوجية- من الأسباب المؤدية إلى الحركية في مجال الإبداع ؛ ولا يفسر أيضا بالقول إنه يعبر عن موقف "إديولوجي" لهذه الفئة أو تلك من الذين يشتغلون بالفكر والثقافة ؛ وإنما يُفسَّر بالنهوض بأعباء توصيف الوضع نفسه المتعلق بإنتاج وتداول "المصطلحات" و"المفاهيم" بحثا عن العلل التي تقف بالمشتغلين دون الاقتدار على إبداعها بشكل مُنتِج وناجع. وهكذا، فإننا لن نذهب بعيدا في هذا التوصيف حتى نكتشف أن كثيرا من المهتمين بوضع "المصطلحات" وإنتاج "المفاهيم" لا يُتقنون اللغة التي يستعملونها وليسوا على دراية كافية بأصول الإنتاج المصطلحي والمفهومي. ومن المؤسف أن يكون "هاني" مثالا حيا على ذلك فيما يكتبه عموما، وفي ما يقوله بالخصوص عن "المصطلحات" و"المفاهيم". فمن جهة عدم إتقان العربية، يستطيع المرء أن يتتبع سيلا من الأخطاء على كل المستويات. ولا ينفع في إنكار هذا الأمر كون الكاتب المعني مُؤلِّفا صاحب مقالات وكتب منشورة ومعروفة، لأن التساهل في الخطإ اللغوي قد صار حالة عامة تشمل اللغويين أنفسهم. ولن تجد من يُكابر في هذا إلا من فاته التضلُّع من فقه العربية أو من وَجَد نفسه مشهورا ككاتب فأصبح يعتقد في نفسه استحالة جريان الخطإ على لسانه أو قلمه. وأما من جهة عدم الدراية بالأصول المُقوِّمة لإنتاج "المصطلح" و"المفهوم"، فإن عدم التمييز بين "اللغة الصناعية" و"اللغة الطبيعية" كما يبدو في كلام "هاني" نفسه كافٍ للدلالة عليه. فالقول بأن «اللغة الصناعية هي قوام التواصل والتجديد في المجتمعات العلمية.» تعميم يتجاوز ما هو ثابت عن حدود استعمال "اللغة الصورية" حتى في الكتابة العلمية نفسها (كثير من العلماء يكتبون رسائلهم وأقولهم في "اللغة الطبيعية")، ويُغفل دور "اللغة الطبيعية" في "المصطلح" و"المفهوم"، ويؤدي إلى نتيجة فاسدة تُفيد التقليل من أهمية هذه اللغة في بناء وتداول المعرفة والعلم. ولا شيء أدل على الجهل بواقع الممارسة الاصطلاحية والمفهومية المعاصرة من مثل ذلك القول الذي تأتي شواهد فاضحة لِسُخفه في ما يلي.
-4يتحدث "هاني" عن أهم الأسماء الممثلة لإنتاج المصطلحات والمفاهيم، على المستوى العربي، ويحصرها في "عبد الرحمن بدوي" (بصفته يأتي في مقدمة الذين عملوا على عرض وتبسيط الفكر الغربي بلغة متصالحة مع أصول التعبير اللغوي). لكن المرحوم "عبد الرحمن بدوي" –على الرغم من أنه كان بالفعل من رُوّاد الكتابة الفلسفية خلال القرن الماضي، بل يكاد يتفوق على كثيرين ممن عاصروه أو جاؤوا بعده- بقي، في كثير من ترجماته، قاصرا عن نقل الفكر الغربي بمصطلحات عربية مستوعبة وبتعبير عربي قويم (خطأه المزدوج في ترجمة "دازاين" ب"آنية" ؛ وترجمته لكتاب سارتر "الوجود والعدم" لا تزال تحتاج إلى نقد ينهض بالكشف عن جوانب كثيرة من الفساد المصطلحي والتعبيري فيها). وإذا كان لا بد من القول بأن ممارسة "عبد الرحمن بدوي" لم تجد من يستأنفها أخذا بمحاسنها واستكمالا لها على أحسن وجه، فإن إيراد أسماء كل من "جورج طرابيشي" و"محمد سبيلا" و"عبد السلام بنعبد العالي" (باعتبار أصحابها واصلوا، حسب ظن "هاني"، جهود "عبد الرحمن بدوي") يُعدّ دالا إلى حد بعيد. ذلك بأنه يُفصح عن عدم الوقوف على نواحي الفساد المختلفة في ترجمات هؤلاء وكتاباتهم، بل يؤكد أن أعمال "عبد الرحمن بدوي" نفسه لم تكن ذات كفاية إبداعية بشكل يجعلها ناجعة في تأسيس ممارسة فلسفية عربية مقتدرة على إنتاج "المصطلحات" و"المفاهيم" بما يقودها إلى مُضاهاة الفكر العالمي المعاصر في البناء والابتكار. ولعل أي قراءة منهجية مقارنة، بهذا الصدد، كفيلة بإبراز أن الأمر يتعلق بأُناس حاولوا التفلسف من دون تحصيل كافٍ لأدواته، فانتهى بهم الحال إلى إعادة إنتاج أشكال التقليد والاحتباس على مستوى الفكر العربي. وليس ثمة تفسير لهذا سوى قلة التبصر بسُبُل الإبداع في التفلسف، قلة تَبصُّر يُضاعِفُها الانغماس في الصراعات الإديولوجية التي تجعل الفكر مشدودا إلى "خطاب اللغوى" أكثر من الاجتهاد في التمكن من وسائل الاستقلال في النظر والعمل بمواكبة المستجدات المعاصرة من موقع الإنتاج والابتكار، وليس الاستهلاك والاجترار.
-5 من أجل الوقوف عند أزمة "المصطلح" و"المفهوم" في الفكر العربي، يختار "هاني" موقفين يعتبرهما مفيدين في هذا المجال: موقف "عبد الله العروي" وموقف "طه عبد الرحمن". فهما، في نظره، يُلخِّصان الهواجس المعرفية والإديولوجية إزاء ذلك الموضوع، لأنهما يعكسان مذهبين مختلفين في "الترجمة" و"النقل" المتعلقين بالفلسفة عموما، وبالفكر العربي على وجه خاص. وكما سيبدو في الفقرات الآتية، فإن هذا الجزء يمثل أهم أجزاء "مقالة هاني". ولذا، سنقف عنده بالتفصيل.
-6يرى "هاني" أن "عبد الله العروي" كان سبّاقا إلى لَفْت الأنظار إلى أزمة المفاهيم في الفكر العربي المعاصر. إذ بدا له أن الأمر يتعلق بتحريف إديولوجي من قِبَل الفكر العربي المعاصر لبعض التيارات الفكرية الغربية. إذ رفض "العروي" الترجمة العربية المشرقية لكتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" فقام بإعادة ترجمة كتابه من الأصل الفرنسي إلى اللغة العربية، وقَدَّم أيضا سلسلة كتب حول "المفاهيم" شملت "مفهوم الإيديولوجيا" (1980) و"مفهوم الحرية" (1981) و"مفهوم الدولة" (1981) و"مفهوم التاريخ" (1992) و"مفهوم العقل" (1996). ويؤكد "هاني" أن محاولة "العروي" هذه فاقت أهم المحاولات في هذا المجال. لكن قوله بأن "العروي" كان أسبق من غيره في الاهتمام بمشكلة "المفاهيم" مثله كمثل القول بأن "دولوز" (في "ما الفلسفة؟"، 1991) كان أول من أثبت أن "التفلسف إبداع للمفاهيم"! وبالبقاء فقط على مستوى التجربة المغربية، نجد أن الاسم الآخر في هذا المجال هو "طه عبد الرحمن" نفسه الذي انتبه منذ عام 1972 في رسالته حول "اللغة والفلسفة" (صدرت عام 1978) إلى مشكلة "المصطلح" و"المفهوم" كبناء فكري مُحدَّد لغويا، بل إن كل كتبه التالية أتت في السياق نفسه (ابتداء ب"في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" [1987]، وانتهاء ب"روح الحداثة" [2006]، حيث يستهل حديثه بما يُسميه "الفتنة المفهومية" التي يُواجهها الفكر العربي-الإسلامي). فما سر هذا الإغفال؟ هل هو بدافع الغفلة الإديولوجية أم أنه بفعل غفلة معرفية مبررة؟
-7 يختار "هاني" مصطلح "إديولوجيا" كمثال على مشكلة "المفاهيم" و"المصطلحات". ويرى أن "العروي" يعتبر أن مفهوم "الإديولوجيا" يحمل من الدلالات الفكرية والفلسفية والثقافية ما لا يسمح بنحت مصطلح آخر، مما يجعله يُبقي على اللفظ الأجنبي ويُخضعه لقواعد التصريف العربي. لذا، فهو وضع مصطلح "أُدْلُوجة" (على وزن "أُفعولة" الذي لم ينتبه لا "العروي" ولا "هاني" إلى أنه يحمل معنى اسم "الآلة" أو "الأداة"، كما نقول "أُنشوطة" أو "أُلعوبة"!). ولا شك في أن هذا الاختيار يدل على نباهة "العروي"، لكن ليس إلى الحد الذي يظنه "هاني"، من قلة نباهته! فلفظ "أُدلوجة" ليس سوى تعريب للَّفظ الأجنبي بِصَبِّ مادته الصوتية ("د/ل/ج") في القالب الصرفي لِلَفْظٍ عربي ("أفعولة"). لكن "العروي" لم تصل نباهته إلى حد جعل لفظ عربي مثل "عقيدة" أو "مذهب" أو "دعوة" نظيرا مناسبا لنقل اللفظ الأجنبي. إنه يكتفي بالقول: «إننا نجد في العلوم الإسلامية لفظة لعبت دورا محوريا كالدور الذي تلعبه اليوم كلمة إيديولوجيا، وهي لفظة الدعوة في الاستعمال الباطني،...» [10]، حيث نُلاحظ أن "العروي" يجعل لفظ "الدعوة" مقصورا على "العلوم الإسلامية" وعلى "الحركات الباطنية"، ولا ينتبه إلى أنه لفظ متداول بشكل عام وأنه ينطبق على الإسلام كله كدين! ويقول "العروي" مباشرة بعد ذلك: «غير أنه من المستحيل إحياؤها والاستعاضة بها عن [كذا: يقصد "استبدالها بِ"] كلمة إيديولوجيا التي انتشرت رغم عدم مطابقتها لأي وزن عربي.». ولا يُبيِّن "العروي" بعدُ سبب هذه الاستحالة، بل يمضي في تسويغ اقتراحه الذي أصبح بديهيا لديه. ويحاول "هاني" تعليل ذلك بقوله إن استبدال لفظ "دعوة" مكان "إديولوجيا" يتضمن خطر عدم وفائه بالغرض المُراد، مما يُظهر في ظنه أن "العروي" يربط بين الترجمة والمعاني التي يُؤديها اللفظ. ويبدو أن "هاني" يقبل اجتهاد "العروي". لكن قبوله إياه لا يبلغ به أن يتبناه في كتاباته! إنه لا يستعمل إلا لفظ "أيدولوجيا" و"أيديولوجي" بالتفخيم. من البين، إذن، أن "هاني" إنما اتَّكأ على اجتهاد "العروي" لتبخيس اجتهاد "طه عبد الرحمن" والتقليل من شأنه. ولقد بقي "العروي" وحده يستخدم لفظ "أدلوجة" و"أدلوجي"! ومن الغريب جدا أنه لا "العروي" صاحب النباهة ولا "هاني" الحريص على تفادي عدم دقة الترجمة وهشاشة المفهوم انتبه إلى أن لفظ "أُدلوجة" يلتبس بمعنى "الإدلاج" و"الدُّلْجة" ("السير من أول الليل") بشكل يجعله يُوحي للمتلقي العربي ب"سواد الليل" و"انعدام الوضوح"! ويزداد هذا المعنى بكون المصطلح الأجنبي نفسه شديد الالتباس وخصوصا حينما يُستعمل لفظ "التَّدليج" بالتشديد كما يفعل "هاني"! وكان علينا أن ننتظر مجيء "طه" ليقول لنا إن «تعريب هذا اللفظ على هذا الشكل لا يلبث أن ينقل إليه المعنى اللغوي الذي يقترن بالمادة /د،ل،ج/ والذي يفيد معنى "السير في الليل"، مما يجعل هذا المفهوم معرضا لأن يحمل معنى قدحيا لا يليق ببعض المنازع الإديولوجية النافعة؛» ("تجديد المنهج في تقويم التراث"، ط2، ص. 24-25). ومن هنا يتبين أن التعريب وَفْق صيغ الصرف العربي غير كافٍ في وضع المصطلحات، بل لا بد من شرطين آخرين لا يُنتبه إليهما في معظم الأحيان: وصل المصطلح بالمعنى الأصلي الأقوى في اللغة ؛ وإمداد المعنى الجديد بالقوة التداولية التي من شأنها تعزيز استعماله وكفالة إجرائيته. ولهذا، فإن ما يقوله "هاني" بعدُ بالتركيز فقط على الصيغة الصرفية لا قيمة له، وحسبنا مصطلح "أُدلوجة" نفسه الذي لم تشفع له صيغته الصرفية لكي يحظى بالاستعمال لا عند "هاني" ولا عند أتباع "العروي" وتلامذته! بل إن هناك عشرات من المصطلحات المماثلة التي استُعملت خلال فترة معينة، ثم أُميتت إلى غير رجعة (أسطقس، كاطيغورياس، هيولى). ومما يجدر ذكره، في هذا السياق، أنه لا "العروي" ولا "هاني" انتبه إلى إمكان اشتقاق لفظ آخر من الجذر "/ف،ك،ر/" بصيغة "أُفعولة"، فيُقال: "أُفكورة"، وذلك على الرغم من أن "العروي" سبق له أن استعمل لفظا آخر بنفس الصيغة هو "أُمثولة" بدلا من "أسطورة" (ربما للقرب الصوتي بين "مَثَل" العربي و"ميثوس" اليوناني). فما الذي يجعل "أدلوجة" أفضل من "أفكورة"؟ لو قال المرء إنه القرب الصوتي للفظ "أدلوجة" من اللفظ الأجنبي لرجع إلى الالتباس الدلالي أو لكان من الذين يستميلهم رنين الكلمات!
-8يُشير "هاني" إلى محاولة المرحوم "محمد عزيز الحبابي" [وليس "عبد العزيز الحبابي" كما يكرر "هاني"!] في توليده لفظ "الفكرولوجيا" كمقابل للفظ الأجنبي، ثم يُوحي من خلال ذلك أن "طه عبد الرحمن" أتى بمصطلح أقرب إلى مصطلح "الحبابي" مع إبدال لاحقة "لوجيا" (« logie ») باللاحقة "نية" (« ism »). ونُلاحظ، هنا، أن "هاني" لا يذكر مصطلح "طه" ولا السياق الذي ورد فيه، وإنما يُدلي بملاحظته ويتركها تفعل فعلها في ذهن القارئ وينتقل إلى الحديث عن "التقريب التداولي" الذي يُمثل عنده صلب عمل "طه" في الترجمة (ومن ثم يأتي اتخاذ "هاني" له غرضا يدور عليه كل نقده لفكر "طه"). كما نُلاحظ أنه اعتبر اللاحقة "لوجيا" (« logie ») بمنزلة اللاحقة "نية" (« ism ») بحيث يُمكن في ظنه إبدال إحداهما بالأخرى كما فعل "طه". تُرى على أي أساس يمكن هذا القول؟ أليست اللاحقة الأولى تُشير إلى معنى "الخطاب" أو "المعرفة" أو "العلم" أو "البحث"، في حين أن اللاحقة الأخرى تدل على معنى "الاتجاه" أو "النزعة" أو "المذهب"؟ ثم هل هناك لاحقة "نية" في العربية أم أن الأمر يتعلق بلاحقة "اني" (في المذكر) و"انية" (في المؤنث) التي تدل على المبالغة في وصف شيء أو فعل ما؟
-9يُمهِّد "هاني" لنقده اجتهاد "طه" في ترجمة "إديولوجيا" بالحديث عن مفهوم "التقريب التداولي". ومرة أخرى يورد حديثه عن هذا المفهوم بشكل يُوحي بأن صاحبه أخذه جاهزا من كتاب ابن حزم "التقريب لحد المنطق" أو من "معيار العلم" للغزالي أو من بعض نصوص ابن تيمية. وبدلا من عرض محتوى المفهوم كما بناه صاحبه والانتقال إلى نقضه بالرد على أدلته، يكتفي "هاني" بالقول "لا أريد الإطناب أكثر في هذا الموضوع". ويعلم القارئ أن "طه عبد الرحمن" لم يأت بمفهوم "التقريب التداولي" بشكل عفوي، بل قام ببنائه في فصل يمتد على 39 صفحة ("تجديد المنهج في تقويم التراث"، الفصل الثاني من الباب الثالث، ص. 273-309) ويأتي مرتبطا بفصل سابق عن "أصول مجال التداول الإسلامي العربي" في نحو 30 صفحة (م.ن، الفصل الأول من الباب الثالث، ص. 243-272). ومن البَيِّن أن قطع القارئ غير المطلع عن هذا كله والقفز مباشرة إلى شيء يُعطَى صفة النقد يُعدّ نوعا من التضليل الذي لا يُمارسه إلا من وَطَّن نفسه على تعاطي "خطاب اللغوى"!
-10يقول "هاني" إن القدمى لم يستبدلوا بلفظ "إيساغوجي" مثلا لفظا آخر، كما لو أنهم عرفوا مقابله العربي وزَهِدوا فيه لصالح اللفظ الأعجمي، وكأنه ثبت بالاستقراء أنهم لم يفعلوا غير هذا في كل اصطلاحاتهم! لكن إذا عرفنا أن "إيساغوجي" (« Isagoge ») عنوان كتاب ل"فورفريوس" يُعدّ بمثابة "المدخل" إلى "مقولات" أرسطو، فإننا نعرف أن الأمر يتعلق باسم كتاب يُترك على حاله كعنوان. وكذلك كان الأمر في عناوين كثير من الكتب: "المجسطي" لبطليموس، "قاطيغورياس"، أنالوطيقا"، "بري إرمينياس" لأرسطو، إلخ. ومع ذلك، لو فتحنا، مثلا، قاموس "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي وتصفحناه (أكثر من ألفي صفحة) كم نجد فيه من نظائر "إيساغوجي" و"أسطقس" و"هيولى"؟! تُرى، هل لفظ "المدخل" أو "المقولات" أو "التحليلات" أو "العبارة" أفضل لدى المتلقي العربي أم تلك الألفاظ المعربة؟ هل لفظ "إديولوجيا" أم تعريبه المُخفَّف "أُدلوجة" أم ترجمته التأصيلية ب"أُفكورة" أو "فِكْرَى" (رغم أنهما لم تُستعملا حتى الآن) أو كما عند "طه" ب"فِكْرانية" كما سنرى؟
-11يزعم "هاني" أن مراد ابن حزم من "التقريب" (في كتابه "التقريب لِحَدِّ المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية") لم يكن هو ما رامه صاحب "التقريب التداولي" من الوقوف عند الألفاظ، بل قصد منه صاحبه تيسير المنطق لذوي الأفهام المتواضعة، فهو يُقَرِّب المضمون ولا يَقْلب الألفاظ. تُرى، أليس من سوء الفهم ادِّعاء أن مقصود "ابن حزم" في كتابه ذاك كان تقريب المضمون من دون تغيير الألفاظ؟! أليس من المغالطة أن يُقال إن كون مفهوم "التقريب التداولي" عند "طه" ليس هو نفسه "التقريب" الذي مارسه "ابن حزم" وغيره في المجال العربي-الإسلامي يُعدّ سببا كافيا لعدم الأخذ به كما بناه صاحبه ودَلَّل عليه؟! لماذا يأبى "هاني" إلا أن يَغْلَط ويُغلِّط من دون أن يعمل فعلا على الاستدلال على بطلان "التقريب التداولي" كما عرضه صاحبه؟ فإذا كان هذا المفهوم يقوم على تغيير المنقول مبنى ومعنى بما يجعله يُوافق أصول مجال التداول العربي-الإسلامي، فإما أن ممارسة "ابن حزم" وغيره لم تكن بهذا المعنى وإما أن دعوى "طه" الخاصة ليس لها معنى. وفي كلتا الحالتين، لا بد من إبطال أدلة "طه" على دعواه والانتقال، من ثم، إلى دعوى مناقضة وإقامة الدليل عليها. أما ما يفعله "هاني"، فليس –في أحسن الأحوال- سوى تعبير عن سوء الفهم لموضوع النقد ولشروطه.
-12يقول "هاني" إن «["الصيغة" أو "الوزن" أساس الاصطلاح في التداول العربي. ف"القرآن" نفسه –وهو الذي أُنزل بلسان عربي مبين- يشتمل على ألفاظ أعجمية (مثلا: "سندس" و"استبرق" و"برهان" و"زرابي"، إلخ.) عُرِّبت فدخلت في الاستعمال العربي، مما يجعل الألفاظ الدخيلة تصير عربية بفعل التكييف التداولي كما تقتضيه مرونة اللغة وحاجتها للتطور ؛ وإذا كان الباحثون العلميون قد يستعملون مثل تلك الألفاظ كمصطلحات من دون مراعاة الوزن العربي، فذلك مرده إلى إتقانهم للغات الأجنبية في سياق ازدواجية اللسان. وهكذا، يجب أن نركز على "المضمون الدلالي" للمصطلح، ولا نقف عند أصوله الاشتقاقية، خصوصا حينما تزداد المفاهيم كثافة وتركيبا بشكل يحصل به انقلاب في مضامينها بخلاف معناها الأصلي.]». ودعوى "هاني" هذه تأتي في مقابل الدعوى التي ترى أن هناك أصولا اشتقاقية مُحدِّدة لمعاني الألفاظ بنحو يُوجب اعتمادها في وضع المصطلح لحفظ الوصل بين المنقول من المعاني وبين الموجود أصلا في مجال التداول. ونُلاحظ أن دعوى "هاني" تستند إلى أمرين مردودين كليهما: أولهما القول بأن في القرآن نفسه ألفاظا من أصل أعجمي ؛ وثانيهما القول بأن حفظ المضمون الدلالي أولى من حفظ الصورة الشكلية أو الصرفية في وضح المصطلحات. أما القول الأول، فلا مستند له سوى تخمينات بعض اللغويين والمفسرين بعيدا عن البحث التاريخي في تطور اللسان العربي ضمن أسرة الألسن "السامية" وفي علاقته بالألسن الأعجمية التي كانت له بها صلات عبر تاريخه الطويل. وكل الألفاظ المذكورة في القرآن من التي قيل ويُقال بأنها معربة عن أصول أعجمية ترجع بشكل أو بآخر إلى أسرة الألسن السامية بشكل يؤكد أصالتها وتَحدُّرها من "اللغة السامية الأم" [11]. وأما القول الثاني، فإنه لا يصح إلا في المدى الذي يُمكن فصل "المضمون" (المعنى) عن "الصورة" (المَبْنَى) في الاستعمال العادي أو إذا أمكن إثبات أن الاستعمال اللغوي (ومن ثم الاصطلاحي منه بالأخص) عند العرب يميل إلى الاهتمام بمعاني الألفاظ أكثر من صُورها الصوتية والصرفية. ومن الثابت، بهذا الصدد، أن أكثر الصيغ المستعملة في اللغة العربية إنما هي صيغ معيارية ومَقِيسة، حيث لا يمثل منها الشاذ والدخيل إلا القليل الذي لا يُقاس عليه في الأغلب، ولا يصلح أن يُتَّخذ سندا للقول بأن المصطلح في العربية يمكن وضعه بالتعريب العشوائي كما يفعل معظم مستعملي العربية المحدثين. وعموما، فإن التساهل في وضع المصطلح خارجَ الصيغ الاشتقاقية يُعبِّر عن التساهل في استعمال اللغة خارج القواعد المُقوِّمة لها كنسق رمزي وتداولي. ومن الغريب جدا، أن مستعملي العربية المعاصرين قد بلغوا الحد الأقصى في التهاون بشأن إحكامها نحويا واشتقاقيا واصطلاحيا. وليس "إدريس هاني" بهذا الخصوص سوى ممثل يقوم بالنيابة للتعبير عن كثير من الكسالى والمتخاذلين من مستعملي العربية بين من يَعُدُّون أنفسهم كتابا ومفكرين.
-13يقول "هاني" إن طريقة "طه" ("التقريب التداولي" بواسطة "الترجمة التأصيلية") تُعبِّر، رغم رياضتها اللغوية، عن موقف سَلْبي قديم من اللغة الصناعية، قِوامه رفض الاكتفاء بتكييف المصطلح مع موازين اللغة العربية. ويرى أنه لا بد من اتِّباع طريقة القدامى في الترجمة القائمة على نقل المصطلح بتكييفه مع الوزن العربي، لأن هذا الإجراء هو الكفيل بتطوير اللغة وإعطائها مرونة عالية من دون تحريف. أما التصرف في "المضمون" و"اللفظ" بحسب ما يقتضيه "مجال التداول" المنقول إليه، فهو في نظر "هاني" تحريف متعسف للمصطلح الذي إما أن يتم إبداعه أصلا وإما أن يُنقل بحفظ مضمونه. ومرة أخرى يتأكد أن "هاني" يُسيء فهم مضمون "التقريب التداولي" و"الترجمة التأصيلية" والأغراض من ورائهما، بل إنه لا يناقشهما كما عرضهما صاحبهما استشكالا واستدلالا، وإنما يفعل ذلك تَشهِّيا وتحكُّما، بعيدا عما هو متعارف حتى على مستوى الفكر الغربي (رفض التحديد التداولي لمجموع الإنتاج الثقافي ارتكاسٌ "فِكْراني" أو "روحاني" لا يقول به إلا من غابت عنه طبيعة المسار الأساسي للفكر المعاصر). فهل المضمون المفهومي لمصطلح "الإديولوجيا" في الاستعمال الفرنسي الأصلي ("علم الفِكَر" و"الخطاب الفكري المجرد") هو نفسه الذي استعمله ماركس ("الوعي الطبقي الزائف")؟ أم هو عينه عند بورديو من خلال «la doxa » ("البداهة العُرفية")؟ وهل ترجمة مصطلح/مفهوم هيدغر "دازاين" (« Dasein ») عند الفرنسيين ب"الواقع-الإنساني" أو "الحقيقة-الإنسانية" (« la réalité humaine ») أو بعبارة « l'être-le-là » نقل حرفي أم تقريب تداولي؟ وهل المصطلح الفرنسي « laïcisme » هو نفسه المصطلح الإنجليزي « secularism »؟ وهل "الهِكْسيس" (« Hexis ») عند "أرسطو" هو نفسه "الهابيتوس" (Habitus) عند "توما الأكويني"، وهو عينه "الهابيتوس" لدى "بورديو"؟ إن الناظر في تَقلُّب المصطلحات والمفاهيم ضمن الفكر المعاصر لَيُدرك أن "التقريب التداولي" و"الترجمة التأصيلية" هما المعمول بهما لدى كبار الفلاسفة والمفكرين باعتبار انتمائهم إلى مجالات تداولية وبحثية تختلف، بهذا القدر أو ذاك، في أصولها اللغوية والعَقَدية والمعرفية، حتى إن هناك من تكلم عن "تَرْحَال المفاهيم" (ثمة عدة كتب بهذا العنوان [12])، بل إن "أمبرتو إيكو" يعد واحدا من الذين يقولون ب"التقريب التداولي" في مجال الترجمة ك"عمل تَفاوُضي" يُقرِّب بين الأطراف المتباعدة لغويا وثقافيا، أو ك"تحويل جذري" يجعل النصوص موادّ فكرية وثقافية مختلفة بصورها اللغوية والأسلوبية [13]. وبالتالي، فإن الاعتراض على التصرف في المصطلحات والمفاهيم والأفكار بحسب مختلف المقتضيات التداولية لهو اعتراض شبيه باعتراض "ابن رشد" على ما قام به مفكرو الإسلام إزاء المنقولات اليونانية بإخضاعهم إياها لِوُجوهٍ من التحويل والتبديل اشتركت فيها عدة مجالات (علم الكلام، الفلسفة، الأخلاق، النحو، البلاغة، أصول الفقه، التفسير). فهو، إذن، اعتراضٌ مِمَّن بلغ منه التقليد أو الجمود حدًّا مَلَك عليه نفسه بحيث لم يَعُدْ يجد إلى الإبداع سبيلا!
أنقر هنا لتتمة المقال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.