على غرار جميع الحوارات التي اعتدنا الاطلاع عليها في الجرائد الورقية والإلكترونية التي يجريها الصحافيون، وقت قيامهم بحوار صحافي، مع فنان أو مسؤول على قطاع معين، أو شخصية بارزة تنتمي إلى صناع القرار بالبلد، أو مع رياضي مشهور... بالاعتماد على الهاتف الذكي أو آلة التسجيل في فضاء محترم يليق بالمستجوَب، ارتأيت أن أجري حوارا فريدا من نوعه، حوارا بعيدا كل البعد عن المشاهير، مع شخصية غنية عن التعريف، شخصية لا تثير فضول المحررين، شخصية لم يسبق لأحد أن اقترح عليها أن يجري معها حوارا لمعرفة حياتها الشخصية واليومية ومعاناتها اليومية. هذا الرجل الشاحب الذي يبلغ من العمر 58 سنة، هو الرجل الذي يحرص إحدى العمارات الموجودة بحي المعاريف بالدار البيضاء رغم قصر قامته ونحافة جسمه، هو الشخص نفسه الذي رحب بي في أول زيارة لي للعاصمة الاقتصادية، بعدما عرَّفني به صديق يعمل في شركة بالعمارة ذاتها التي يتكفل "الكونسييرج" بمراقبتها ليل نهار. وردا للجميل الذي قدمه لي هذا الآدمي الذي ابيض شعره الأشعث رغم أن عينيه تحتفظ ببريق حاد يكشف سر ذكاء متقد، ونباهة فطرية، شحذها تعلم ذاتي ومثابرة طويلة النفس، قررت أن أحاوره حوارا غير رسمي، حوارا بعيدا عن البروتوكول الزائف، حوارا يحضر فيه الشاي بالنعناع في بيته الصغير الذي ينم عن بساطة عيشه، وقلة زاده، وقِصَر يده، قصد محاولة تسليط بعض الضوء عليه، لاسيما وأنه ينتمي إلى أولئك المغضوب عليهم الذين ليس من حقهم أن يعيشوا حياة كريمة كباقي بني البشر نظرا لحالتهم المصنفة في خانة الأشخاص دون المستوى، لعل وعسى أن يعاد الاعتبار لمثل هؤلاء المكلومين المغلوبين على أمرهم الذين لا حول ولا قوة لهم أمام بطش أصحاب النفوذ، مع العلم أن هذا الشخص هو مجرد نموذج من النماذج التي تتلقفها أعيينا كل مرة صباح مساء. وعليه، قررت أول الأمر أن أطرح عليه مجموعة من الأسئلة قصد نفض بعض الغبار عن هذا الأب المغتصبة طفولته على الشكل التالي: حدثني عن حياتك الشخصية؟ كما لا يخفى عليك، اسمي (م.ح)، متزوج ولي ثلاثة أبناء، ابنتي متزوجة ولها طفل واحد، والذكر الآخر-هكذا نطقها- يشتغل في إحدى الورشات بالمحمدية، بينما الولد الصغير فلا يزال يتابع دراسته عَلِّيَ أفرح بوظيفته في يوم من الأيام، زوجتي وأبنائي يسكنون في حي آخر غير هذا الذي أعمل فيه، لكني أَسْلِتُ بعض المرات لأجالس أبنائي وزوجتي ولو للحظات قليلة في المنزل (الكوخ) الذي اكتريناه منذ مدة، ثم أعود بعد ذلك إلى البيت الذي أتحدث معك الآن فيه قصد حراسة العمارة، و كذا السيارات التي تكون مركونة في واجهة المبنى. أما التي في المرآب، فإنها تكون آمنة من اللصوص الذين قد تسول لهم أنفسهم أحيانا تهشيم زجاجها ولو أن هذا الحي غير شعبي، غير أنه في بعض المرات يعيش حالة من الفوضى والضجيج جراء الصعاليك الذين يتوافدون على (المعاريف) بحثا عن فريسة لافتراسها بكل الطرق. كيف تقضي يومك؟ في كل صباح، أستيقظ مع الساعة السابعة صباحا، أخرج الكرسي إلى أمام العمارة، وأجلس هناك حتى إذا كان أحد قاطني العمارة يريدوني في شيء أن يجدني مستعدا لتنفيذ المهمة التي سيكلفني بها، ورهن إشارتهم، كأن يرسلني لجلب الخبر، أو مادة من المواد الغذائية التي قد يحتاجها، علاوة على أني أفتح باب المرآب لمن يريد إخراج سيارته، فمنهم من يكافئوني، ومنهم من يخلف وراءه سوى دخان السيارة المنبعث منها. وفي مرات أخرى، أقوم بغسل السيارات قصد استرداد دراهم لم ولن تكفي لسد الحاجيات اليومية المتزايدة، والتي بات ثمنها يعرف ارتفاعا صاروخيا في العقد الأخير... لا ترتاح وسط النهار؟ كيف لي أن أرتاح والعمارة مملوءة عن آخرها بالساكنة، وكلما حاولت أن أستلقي للحظة في هذا البيت الذي تطل نافذته الصغيرة على واجهة المبنى لنيل قسط من الراحة إلا وينادي أحدهم علي لقضاء حوائجه الشخصية. وفي بعض المرات، قد أضطر للذهاب مسافات لأتمكن من تحقيق الغاية التي من أجلها سُخِّرت، ولكن من الضروري أن أجد وقتا لنفسي قصد الاستمتاع بلذة التبغ الممزوج ب ... محتسيا الشاي أو القهوى حتى أتمكن من استكمال النهار الشاق. يقولها ومحياه يحيل على أن قلبه يخفي الكثير ولا يود الإفصاح عنه. منذ متى وأنت تعمل في هذا المكان؟ منذ متى !!!! منذ أن كنت شابا، أي حوالي 36 سنة وأنا في هذا المكان حتى ألفني السكان القدامى، لأن الكثير من العائلات مرت من هنا لترحل فيها بعد بسبب الانتقال، أو بسبب العثور على مسكن أحلى، أو العكس من ذلك، أقصد الأقل ثمنا. وكان ما أجنيه من مال من هذا العمل المضني هو الذي جعلني أتزوج وأنجب أولادا، وأتكفل بالحرص على تربيتهم تربية حسنة رغم الظروف الصعبة ماديا. مع العلم أن أبنائي ،حاليا، لم يعد يرقهم أن أكون حارسا للعمارة لأن هذه المهنة (آشمن مهنة) تحط من قيمتهم، كما أنهم تمنوا لو لم يكونوا أبناء "كونسييرج" الذي يقتات من فضلات مالكيه. ولو أكملت دراستي، التي توقفت عنها في الخامسة ابتدائي جراء ضعف الحالة الاجتماعية لوالدي -رحمهما الله- لما كنت ما أنا عليه اليوم، ولكنت أنا أيضا إطارا أو شيئا من هذا القبيل. لهذا، أضع رجائي في وَلَدِي الذي يتابع دراسته هذه السنة في الباكالوريا آملا أن يكون ذا قِمة حتى يعيد الاعتبار لي، وليخرجني من هذه المذلة والضنك اللذين لم أخترهما. يقولها بتشاؤم