كلنا مُذعنون للموت، إنها الحياة التي لسنا مذعنين لها. (غراهام غرين ) تعرّفت على فِكر الفقيه والمُفكر هاني فحص قبل 10 سنوات أثناء بحثي لموضوع الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، وتعرّفت على هاني فحص الانسان قبل سنتين على هامش المؤتمر الأول الذي أقامته مؤسسة "مؤمنون بلاحدود" في مدينة المحمدية. صادفتُ الرجل تائهًا بين أزقّة هذه المدينة، يجرّ أسبال ثيابه التي ترمز إلى المشيَخة في المذهب الشيعي، فقلت مع نفسي من الأحسن ألا أسلم عليه وألا أحدّثه، حفاظا على الصورة الجميلة التي كونته عنه من خلال قراءة متونه، وذلك اعتقادا مني بأن الكثير من المفكرين الذين نحسبهم مستنيرين هم في الحقيقة أبعد عن ذلك في علاقاتهم الانسانية. ترددت قليلا، لكن تراجعت عن ترددي بعد أن تبيّن لي بأن الرجل يحتاج إلى مساعدة، فهو يريد أن يُكلم زوجته بلبنان ولكنه لم يجد هاتفا عموميا يمكّنه من ذلك. تقدمت إليه ببطءٍ والتردد يسيطر علي ثم سألته: هل تحتاج مساعدة؟ لم يكن جوابه مباشرا بل راح يجيبني بنثر موزون هو أقرب إلى الشعر، وبصوت فخيم ومُطرب، وبكلمات تشبه كلمات أهل الفن في بلده لبنان. أخبرته بعدها بأني من المهتمين بفكره وأني أنجزت بعض الدراسات حوله، تفاجأ من الأمر قائلا: لم أعتقد أن شابّا سنّيا يهتم بفكر رجل محسوب على الشيعة. سألته بدوري وهل أنت شيعي؟ كان جوابه: ألم تنظر إلى ثيابي؟ فهمت مقصد الرجل الرامي إلى القول: أنا شيعي جغرافيا ومجتمعيا، وأسعى إلى تجديد أفكار أبناء المذهب الشيعي. في الواقع، كان "العلامة" هاني فحص مهموما بتطوير المذهب الشيعي وإخراجه من سجونه المتوارثة منذ قرون. كان بإمكانه أن يلبس ثيابا عصرية ويعتمر الطربوش بدل العمامة، لكنه كان دائم القول: جُمهوري غير جمهوركم، وبيئتي غير بيئتكم، أحاول بقدر استطاعتي أن أكون فاعلا داخل مجتمعي، أسعى إلى ألاّ أُشعِر مواطني بأنني قادم من عالم آخر. لم ألتقِ المرحوم هاني فحص بعد لقائنا الأول، وهو اللقاء الذي ترك لديّ انطباعا مفاده أن توجّسي من بعض أهل الفكر كونهم على شاكلة واحدة، وأن سلوكهم لا يوافق أفكارهم، هو أمر غير صحيح. تأكد لي الأمر أيضا عندما خاطبت هاني فحص على هامش مؤتمر آخر بينما كان يعتلي منصة المحاضرة، سائلا إيّاه: كيف تسمحُ، وأنت داعيةُ الاستنارة، بأن يُكتَب على اللافتة التي يوجد عليها اسمك "العلامة فلان"، وتُوافِق على أن يخاطبك الناس بنفس الصفة. لم يتظاهر المرحوم بكثرة الأسئلة التي وردت إليه أثناء المحاضرة كي لا يجيب عن سؤالي، بل كان أول أجوبته يتصل بسؤالي، قائلا: أنا لا أصف نفسي بالعلامة أو الشيخ أو غيرها من الأوصاف، بل أوقع كتبي ومقالاتي باسمي الشخصي "هاني فحص"، لكن لا أستطيع أن ألزم الناس بأن ينظروا لي كما أريد أنا. والحال، أن إيمان الرجل بالحرية لم يكن يفارقه أبدا لا على المستوى الفكري ولا على المستوى الشخصي. فعلى المستوى الشخصي نجد أن هاني فحص تمرّد على محيطه الاجتماعي والثقافي، وهو ما جلب له الكثير من المشاكل مع المُتمذهبين بالمذهب الشيعي الذين منهم من اتّهمه بالاعتماد على المصادر السّنيّة في تكوين أفكاره. أما على المستوى الفكري فهو القائل: "لا مقدّس عند الله سوى كرامة الإنسان". وهو الذي لا يمُلّ من التأكيد على أن العقائد «لا تبني حضارات وإنما العقل هو الذي يبنيها» و «المطلق عندي هو الله، أما معرفتي به فليست مطلقة ولا يمكن أن ألزم أحدا بها». لم تكن مصادفة أن أختم النماذج الدراسية التي رُمت بحثها في كتاب "الديمقراطية في الفكر الاسلامي المعاصر: دراسة جغرافية مذهبية"، بالطرح الذي يدافع عنه الفقيه والمفكر المرحوم هاني فحص، لأنني لم أجد أكثر منه دفاعا عن الديمقراطية سواء بما هي قيم أو بما هي إجراءات، إلى درجة أنه اعتبر الديمقراطية من أهم الواجبات الانسانية. في تقدير فحص، العلاقة بين الإسلام والديمقراطية ليست علاقة بين نظامين حضاريين، بل «نحن مع نظام حضاري إسلامي تاريخي متحرّك متجدّد على أصوله، نازع بعمق إلى استيعاب التعدد وتجاوزه، أي رفعه إلى مستوى أطروحة إنسانية على شرط الحرية. ومن هنا تصبح الديمقراطية، التي كانت ولا تزال، تعبيرا عن شوق إنساني إلى الحضور في المشهد عطفا على الحضور في المعتقد من خلال الانتماء الديني الثقافي، تصبح منجزا تاريخيا دائم الانجاز، تنجزه لينجزك، تعيد به إنجاز الإسلام فروعا معروضة على أصولها، ويعيد الإسلام إنجازه طريقا تتسع وتضيق وتعتريها الالتواءات والمطبات من مكان لآخر، ومن زمن لآخر». (فحص: امتناع تنميط الدولة). لقد رحَل المرحوم هاني فحص وفي جُعبته العديد من المشاريع الفكرية والتنويرية، التي من شأنها التقريب بين مُعتنقي المذاهب الاسلامية. كان يؤدّي نفس الدور الذي قام به مارثن لوثر في أوربا بداية القرن 16، مع وجود العديد من الفوارق، والتي من أهمها أن أفكار لوثر تلقّفتها عقول نازِعة نحو الاستنارة، وحَماها حاكم رغم استبداديته إلا أنه ساعد على نشر الفكر المستنير وواجه البابوية التي تجرّأ لوثر على تثبيت أطروحاته ال 95 على قلعتها، ثم لجأ إلى أمير ألمانيا من أجل وضع حدّ لصكوك الغفران البابوية، وإساءة استخدام الحرمان الكنسي، وقُدّاسات الموتى، وتحرير الشعب الألماني من الابتزاز الروماني. بينما فكّر هاني فحص داخل مجتمع تتقاسمه العِرقيات والعقائد، وتتنازعه المصالح الأنانية للحكام ومحاباتهم للشعبوية. ورغم ذلك فإن من شأن ما قام به هاني فحص ورفاقه أن يساعد على تلمّس بعض الضوء في آخر النفق. ضوء قادم رغم عتمة التطرّف بكل أشكاله. إننا نحزن على الأموات ليس بسبب الموت في حد ذاته، ولكن لألم الشعور بالفِراق. فالموت صديقنا، كما يقول فرانسيس بيكون، ومن ليس مستعدّا لاستضافته لن يرتاح أبدا. أما الأعمار الحقيقية للإنسان فهي لا ترتبط باللحظات التي يقضيها في الحياة، وإنما في الأعمال التي تعمّر بعد رحيله. ولهذا، فمن يعيش بالحِكمة لن يخشى الموت كما جاء في القول المأثور. إن أفضل خدمة يقدمها الأحياء للأموات هي أن يعمَلوا على إتمام ما لم تُمهِلهم الأقدار الوقت من أجل إتمامه، كي تستمر الحياة نحو التقدم، ويستمر الانسان في سعي من أجل تحقيق شروط إنسانيته. رحم الله الرّاحل، وأرجو الصبر والسلوان لأهله وكافة رفاقه ومحبّيه. - باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة، المغرب