لأول مرة، منذ مدة ليست بالقصيرة، قدّر لي الحضور بشكل رسمي في اجتماع ذي طابع سياسي، حيث شاركت في الدورة الثانية للمجلس الوطني الموسع لجمعية بلا هوادة بتاريخ 13 أكتوبر 2015، فكانت بالنسبة لي مناسبة مهمة وفرصة غانمة لأطلق العنان لتفكيري وعقلي، الذي أصابه الجمود مؤخرا، حتى يقوم بعملية الاستكشاف والبحث قبل الدخول في غمار التحليل الموضوعي ثم اتخاذ المواقف التي يجب اتخاذها في مثل هذه الظروف ذات الحساسية القصوى من تاريخ حزب الاستقلال ومن تاريخ الوطن الذي أضحى موضوعا وهدفا لتقاطب ثنائي "مصطنع" بين فصيلين سياسيين، فصيل انبعث من الرافد الأصولي الحديث للمجتمع المغربي لكنه انتهج، منذ نشأته الأولى، سياسة تتميّز بالخنوع والخشوع لما يملى عليه من فوق واستمر على ذلك النهج حتى وهو يعيش أزهى أيام حياته التنظيمية وفصيل آخر تمخّض وترعرع بسرعة البرق على منهاج التحكم والسيطرة على ما دونه فساد واستأسد على باقي فصائل المجتمع السياسي المغربي وهو يقتات كل يوم من الفراغ الفكري والاستفراغ البشري للأحزاب الوطنية والاجتماعية التي خابت فيها الآمال خلال العقد الأخير. ولعل انشغالي بهذا الاستكشاف وانغماسي في ثناياه هو الذي حرمني من القيام بأية مداخلة خلال أطوار المجلس الوطني للجمعية إذ أنني لازمت الصمت فلازمني هو كذلك فلم تتح لي الفرصة لإيصال أفكاري والتعبير عن مواقفي لإخواني الاستقلاليين اللاهواديين، وقد لاحظت في كثير منهم إيمانا قويا بروح التضامن والإخاء وحب المبادرة فوجدت الكل يعمل كخلية نحل في بلورة برامج الجمعية و تحديد أهدافها، وهذا نهج محمود أتمنى أن تستمر عليه هذه الجمعية الفتية لأنه سيؤدي لا محالة إلى تقويتها وتعزيزها بمزيد من المناضلين والكفاءات المنتمية إلى الأغلبية الاستقلالية الصامتة داخل أجهزة الحزب وخارجها. ومادمت لم أتمكن من إيصال أفكاري ومواقفي إلى إخواني اللاهواديين، فقد ارتأيت أن أحمل قلمي اليوم وأستدرك ما فات بكتابة هذه السطور وتوجيهها إلى جميع أعضاء الجمعية لعلني قد أوفق في إبلاغهم ما يكتنف جوارحي ويغمرها من أفكار وأحاسيس. ومن هنا لابد من الإشارة إلى شيء أساسي وهو أنني، بعد التقاط الرسائل التي خططها إخواني في اجتماع المجلس الوطني الأخير، أصبحت عندي قناعة مفادها أن أغلب الاستقلاليين الأحرار واعون اليوم ومدركون لأصل الداء الذي أصاب حزبهم قبل أن يصبح مثل الميت الحي أو الحي الميت داخل المشهد السياسي المغربي، فهو حي لأنه يثير ضجيجا وصداعا لا تجف الأقلام عن ذكره ووصفه، وميت لأنه لا ينتج شيئا قد ينفع البلاد لتستقيم من اعوجاجها اللهم إلا تعبئة بعض المقاعد الثانوية في الجماعات المحلية والغرف المهنية ومجلس المستشارين وقد اتسخ بعضها فشاعت رائحتها النتنة وصارت معرضا لاستعراض العضلات من طرف أجهزة الدولة ولو خارج إطار المساطر المعمول بها في هذا المجال، وأي مساطر وأقد أزكمت أنوفنا بفضائحهم وصرنا لا نميّز بين الحابل والنابل بعدما اجتمع عندنا كل الفاسدين والأفاقين اللذين لم يخطروا في بالنا في يوم من الأيام. لقد أكد الأخ عبد الواحد الفاسي بصفته منسقا عاما للجمعية أن حزب الاستقلال فقد شرعيته حاليا ما لم يقم بتغيير جذري على مستوى قيادته، وقال السيد امحمد الخليفة إن منطق الاستبداد والتحكم هو الذي أدى إلى صناعة القيادة الحالية لحزب الاستقلال وقال هو وغيره إن الصعود البارز لحزب العدالة التنمية مصدره غياب الأحزاب الوطنية من الساحة ونفور المغاربة من قياداتها الحالية، وفوق ذلك تم إرسال الكثير الإشارات والرسائل لمن يهمهم الأمر سواء من طرف اللجنة المنظمة في شخص الأخت لطيفة بناني سميرس والأخوين الخليفة والفاسي أو من طرف الإخوة الاستقلاليين اللاهواديين الذين أدلو بدلوهم خلال اجتماع المجلس الوطني للجمعية، لكنني أردت أن أضيف على كل ذلك بعض الملاحظات التي قد تكون غابت أو وردت في تدخلاتهم وهي كالتالي: قبل المؤتمر السادس عشر لحزب الاستقلال وقبل ترشح الأخوين عبد الواحد الفاسي وحميد شباط للأمانة العامة للحزب، كنا قد نبهنا إلى وجود خطر يحدق بالحزب وقد كتبت في إحدى مقالاتي السابقة أننا مطالبون بتصحيح الأمور في إطار يتسم بالعقلانية واستقلالية القرار وإلا فإننا سندخل في مرحلة سميتها حينها بمرحلة الانحدار السياسي وها نحن قد دخلنا في تلك المرحلة بمساهمة من جميع الاستقلاليين الذين لم يخرجوا حينها للأسف عن نطاق مثلت الشر المتمثل في سلبية البعض وانتهازية البعض الآخر وفساد البعض الأخير. لقد كنت أعتقد منذ البداية أن ترشح الأخ عبد الواحد الفاسي للأمانة العامة للحزب لم يكن ضروريا في تلك المرحلة بل إنه كان ملغوما في ذلك التاريخ القريب من حراك 20 فبراير حيث كانت ذهنية المغاربة تتميز بنوع من الاهتزاز النفسي والحساسية المرهفة فاستغلتها تماسيح الظلام ذريعة لتلعب على وتر الصراع الثقافي الاستعماري القديم بين أبناء العائلات المتمدنة وأبناء البوادي والهوامش، وهو صراع وهمي لم يعد له وجود في الحقيقة لكنه ساعد البعض على تجاوز ذلك الحاجز النفسي الذي كان يستحيل معه التفكير في وصول من وصل اليوم إلى الأمانة العامة لحزب الاستقلال. خلال المؤتمر السادس عشر للحزب أتذكر جيدا كيف تم إبلاغنا نحن المؤتمرون أنه قد تم تأجيل انتخاب الأمين العام للحزب دون مصادقة المؤتمر على ذلك تأجيل ودون أية معارضة تذكر فقلت مع نفسي حينها إننا فاقدون للشرعية مهما كانت نتائج ذلك الانتخاب الذي لم يتم إلا بعد طبخ الأمور وعصرها بشكل واضح وفاضح. بعدما نجحت الخطة التي فتحت الطريق أمام تيار الاستغلال العبثي للتحكم في حزب الاستقلال، قلت مع نفسي مرة أخرى: "رب ضرة نافعة" فعندما يجتمع الفاسدون والاستغلاليون في خندق واحد ويتم فرزهم بشكل واضح سوف يسهل فضحهم عند الرأي العام وهو ما تم ويتم بحمد الله، لكنني أتمنى موازاة مع ذلك أن يستفيق إخواننا المغرر بهم أو ذوي النيات الحسنة داخل الحزب لينقذوا مسيرتهم السياسية وينقذوا حزبهم من الفساد وتبعات الاستبداد، ونحن مستعدون لوضع أيدينا في أيديهم للقيام بهذه المهمة مهما كلفنا الأمر من جهد وتضحيات. وأما اليوم وقد وقعت في الأعوام الثلاثة الأخيرة من تاريخ حزب الاستقلال أشياء كثيرة لم تخرج عن نطاق العبث والانحطاط، فقد تولد عند الرأي العام المغربي عموما وليس الاستقلالي وحده حنين كبير إلى الماضي وإيجابياته وبدأ الناس يتساءلون: كيف السبيل إلى إنقاذ البلاد من قبضة هؤلاء؟ أليس هناك في مجتمعنا من يؤمن بالأخلاق والقيم الروحية ويسعى لتجسيدها بمنطق عقلاني نابع من روح المجتمع المغربي الأصيل ومستقل عن نفوذ المصالح الفئوية الضيقة؟ هل نملك خيارا آخر غير التبعية والاستبداد؟ تلك هي الأسئلة التي تحتاج جمعية بلا هوادة للإجابة عليها اليوم، ولفعل ذلك لابد لها من النزول إلى الميدان وتكثيف قنوات التواصل مع أبناء الأغلبية الصامتة بمن فيهم الشباب والمثقفون وأفراد الطبقة المتوسطة على وجه الخصوص وإن كان هذا السبيل سيتطلب منها الكثير من الصبر والصمود.