كان يا ما كان – قد يكون في قديم أو راهن الزمان- دولة يأتي على الناس فيها شهر من السنة ليس كباقي الأشهر، إنه شهر المبالغة في كل شيء؛ حيث يتم الاحتفاء بشهوتي البطن والفرج بشراهة، وتسفك أنهار النبيذ وتكثر لفائف المخدرات...كل هذا يتم ضمن طقوس دينية يتقرب الناس بها للإله ويرجون ثوابه. قد يكون ما سبق عاديا ما دام يقف عند حدود الحرية الشخصية دون أن يتعداها لإيذاء الغير، ولكن الأمر غير ذلك في الواقع. فهؤلاء يسقطون معتقداتهم على جميع من يعيش في هذه الدولة حتى أولئك الذين يدينون بغير دينهم، فيُكرهون الناس على طقوسهم غصبا، أو التظاهر بأدائها وذلك أضعف الإيمان. بهذه الدولة العجيبة وفي هذا الشهر بالذات، ويل وألف ويل لمن خرجت إلى الفضاء العام بلباس يستر جسدها؛ لأن الأصل في هذا الشهر العراء الكامل إلا ما خفي منه، ثم الويل لمن يجول بالشارع دون أن تحمل يمناه أو يسراه مخدرا أو مسكرا... أما عن أولئك الذين يخرقون قوانين هذا الشهر العظيم، فيهانون وتمرغ كرامتهم في التراب، يُسبون ويُشتمون وقد يُضربون كذلك، وقد يَتعرضون للمحاكمة القانونية بتهمة زعزعة عقيدة المؤمنين، كلّ هذا يتم من منطق حماية مقدّسات تؤمن بها فئة وتريد فرضها على باقي مكونات المجتمع غصبا وكرها، لا طوعا واختيارا. كان بهذه الدولة فئة مسلمة لابأس بها عددا، وكانت دائما ما تشكو من الاضطهاد الذي يمارس عليها في هذا الشهر (الكريم عند أولئك واللئيم عند المسلمين)، كان شهرا لئيما حقا عندهم لأنه مرادف للاضطهاد عندهم، فالإسلام يحرم الخمر وهذا شهر السكر العلني الإجباري، والإسلام يفرض الحجاب وهذا شهر العري القسري، ثم إنه يفرض أمورا أخرى كثيرة تتعارض وتتناقض كليا مع ما تدين به هذه الدولة وفي هذا الشهر بالتحديد، ولكن المسلمين كانوا أقلية لا يقوون على مجابهة هذا الظلم. تقول إحدى المسلمات المحجبات "لا شيء أصعب من ذلك التمزق الداخلي الذي أحسه عندما أخرج محجبة إلى الشارع في هذا الشهر وأسمع عبارات السب والشتم والإهانة التي تتحول في كثير من الأحيان إلى مضايقات تهدد سلامتي لا لشيء إلا لأني لا أدين بما يدين به هؤلاء" ويحكي آخر حكايته قائلا : "كان شهر رمضان آنذاك وطبيعي أن أكون صائما لأنني مسلم، وكان قد تزامن شهر رمضان عندنا مع هذا الشهر اللئيم عند هؤلاء، فما كان مني إلا أن خرجت من المنزل لأقضي أغراضي فهاجموني وأشربوني خمرا بالقوّة، فأفسدوا صيامي وأذاقوني مسكرا أسأل الله الغفران" وتابع قائلا "إنه لإحساس قاس جدّا ذاك الذي أحسسته، حتّى أني أخذت أسب هذا الإله الذي فرض عليهم أن يفعلوا بالناس كلّ هذا، فأي إله هذا الذي يتزعزع من مكانه إن أنا صمت في شهره هذا؟ وكيف تسمح لهم عقولهم هؤلاء بأن يضطهدوا أناسا على غير شريعتهم فيسقطون عليهم طقوسهم غصبا...أليس في هؤلاء لبيب يخبرهم أن من حقّ كل إنسان أن يعتقد فيما يشاء ويمارس طقوسه الدينية دون أن يفرضها على الآخر المختلف عنه عقديا؟" ----------------- لقد عانت الأقليات المسلمة المرارة حقّا في هذه الدولة التي يعلم الكاتب بأنها موجودة في خياله فقط، ولكنه يعلم بوجود نقيضها عند المسلمين، ففي كثير من الدول العربية والإسلامية يتم اضطهاد الحريات في شهر رمضان، ولنا في رمضان الفارط أمثال كثيرة لقوم يتفكرون، فقد تم في المغرب الاعتداء على فتاتين بسبب لباسهما الذي اعتبره الصائمون مهدّدا لصحة وسلامة صيامهم، ليطالبوا السلطة بمعاقبة الفتاتين...ثم تم الاعتداء الشنيع على شاب ضبطته جماعة وهو يدخن سيجارته مختبئا قرب شاطئ البحر...وكثيرة هي الأشرطة التي توثق للحظات هيجان الصائمين على من يصنفونهن "متبرجات"...وكثيرة هي الأمثلة والمغزى واحد؛ ألا وهو تلك السلطة التي يمنحها الصائم لنفسه فردا ومجتمعا لاضطهاد المفطرين أو حتى الصائمين الذين لا يخضعون للشروط العامة للصيام مثلما هي في المتخيل الديني الجماعي. إن كل هؤلاء الذي يمارسون الوصاية على الناس في هذا الشهر لن يستطيعوا لنقد ذواتهم سبيلا إلا إذا استحضروا وتخيلوا نفس الموقف، والذي يكونون فيه الحلقة الأضعف بين جمهور الأقوياء الذين تدعمهم المنابر والجماهير والقوانين. عندها فقط يمكن أن يفطنوا إلى حجم الظلم الذي يمارسونه على الآخر المختلف عنهم حين اختار لنفسه طريقا آخر دون أن يلزم أحدا باتباعه ودون أن يؤذي أحدا باختياره...على ذلك الصائم الذي يمنع الناس من الإفطار بدعوى استفزازه أن يتخيل نفسه وهو مجبور على الإفطار في يوم اختار الصوم فيه، و أن يتخيل نفسه وهو يلبس لباسا معينا لا يرغب به إطلاقا ولكنه مرغم عليه احتراما لرغبة الآخرين الذين لم يحترموا رغبته هو في الاختلاف عنهم... على الصائمين أن يتخيلوا أنفسهم في دولة المفطرين لعلّ الخيال ينفعهم كافّة، فيَحْيَوْنَ جنْبا لجنب آمنين. *الكاتب العام لحركة تنوير [email protected] https://www.facebook.com/rachid.sociologie.7