لم يكن لإعلان جبهة البوليساريو عن رحيل أمينها العام، محمد عبد العزيز، وقع المفاجئة المتوقع بخصوص "زعيم" قاد حركة إنفصالية لمدة أربعين عاما متواصلة. عبد العزيز، ومنذ سنة تقريبا، كان قليل الظهور في المناسبات العامة وفي المحافل الدولية، حيث كان خبر مرضه في علم الجميع، رغم حجم التعتيم الذي حاولت قيادة الجبهة إحاطته به، وهذا الوقع أفرز نقاشا صامتا حول من سيخلفه بدرجة أولى، و كيف ستكون الوضعية في المخيمات والمنطقة، و وبالنتيجة الصراع حول الصحراء المغربية بدرجة ثانية. تذهب الكثير من التحاليل إلى أن خلافة محمد عبد العزيز لن تكون سوى بين الجيل المؤسس لجبهة البوليساريو، كما أن موضوع الخلافة ليس موضوع الجبهة وأعضائها، بل هو من صميم اختصاص الأجهزة الأمنية والعسكرية الجزائرية. فالجزائر التي صنعت نجم عبد العزيز، ودافعت عنه في وجه "صقور الجبهة" إبان إنتفاضة 1988، هي نفسها الجزائر التي ستصنع خليفته، لكن في سياق مختلف، سواء عن المرحلة التي تلت مقتل الوالي مصطفى السيد، مؤسس الجبهة، أو مرحلة ما بعد 1988. الجزائر التي تعرف هي نفسها أزمة قيادة، بسبب مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتحكم أخيه سعيد بوتفليقة رفقة عدد من وجوه المؤسسة العسكرية والأمنية في كل مفاصيل القرار السياسي والأمني والعسكري والإقتصادي، لن تضع في إعتبارها، وهي تختار أمينا عاما جديدا لجبهة البوليساريو، سوى أمرين رئيسيّين؛ الأول هو الولاء المطلق للجزائر، كما كان الأمر مع الراحل محمد عبد العزيز، و الثاني يتمثل في القدرة على الضبط داخل المخيمات. الجزائر لن تتحمل أي تمرد في المخيمات، سواء من المدنيين أو المسلحين، كما أنها لا تفضل أن تكون مضطرة لأي تدخل لفرض الأمن هناك، بالنظر إلى ما سيترتب عن هذا التدخل من تكلفة سياسية وديبلوماسية على المستوى الدولي، ومن مخاطر إنتقال العدوى إلى الشارع الجزائري. لم تكن قيادة عبد العزيز للبوليساريو محط إجماع بين مكونات الجبهة، فقد كانت هناك مطالب بإقالته، كما ارتفعت أصوات عن يمينه ويساره تنتقد الفساد المستشري داخل القيادة التي طالما ووجهت بتهمة المتاجرة بمآسي ساكنة المخيمات وبالمساعدات الإنسانية التي تتوصل بها، وتحويل "القضية" إلى بقرة حلوب لبناء ثروات خيالية لدى عدد من قادة الجبهة. أصحاب هذه الإنتقادات لا يتفقون على بديل موحد، فهناك توجه يعتبر أن الانخراط في مسلسل التسوية الأممي أثبت أنه بلا نتائج، وأن الحل السلمي لا يمكن أن يكون حلا "للقضية"، لهذا ينادي هذا التيار بالعودة إلى الحرب. التوجه الآخر المعارض لقيادة الجبهة يعتبر أن معطيات العالم تغيرت، وأن حلم الدولة، الذي لم يتحقق في ظروف دولية مواتية، لا يمكن أن يتحقق اليوم، وأنه من العبث الإستمرار في مطاردة السراب، وأن مآسي المخيمات تهم أجيالا حكم عليها أن تعيش ظروفا قاسية، وأن قيادة الجبهة لم تعد معنية بهذه المآسي لأنها واقعة تحت التأثير الجزائري وفاقدة لاستقلالية القرار، وأنه حان الوقت لوضع نقطة نهاية لهذا المسلسل الطويل عبر التعاطي الجدي مع مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب، وهذا التوجه لا يتنكر لإرث الجبهة، لكنه يدعو إلى التعاطي الواقعي مع ما تفرضه المرحلة، ويمثل هذا التوجه بصفة خاصة تيار "خط الشهيد". في المحصلة النهائية؛ توجد الجزائر في وضعية معقدة و بين نقيضين؛ العودة إلى الحرب من جهة؛ وقبول التفاوض على الحكم الذاتي من جهة أخرى، علما أنها تعلم أن قرار الحرب يتجاوزها، نظرا لاعتبارات جيواستراتيجية مرتبطة بمصالح القوى الدولية الكبرى، خاصة في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية .. و في المقابل، لا يمكنها القبول بحل الحكم الذاتي لأن ذلك لا يرضي طموحها ولا مصالحها التي توهمت تحقيقها بتبني أطروحة الإنفصال في الصحراء المغربية، وهذه الوضعية ستحكم وستعقد عملية اختيار خليفة لمحمد عبد العزيز. أيا كان الأمين العام المقبل لجبهة البوليساريو فإن ساكنة المخيمات، وبصفة خاصة الشباب؛ لن تقبل بإعادة إنتاج نفس القيادة التي قادت لمدة أربعين سنة "قضية" خاسرة لم تنتج سوى مآسي إنسانية؛ فكما كانت أحداث 1988 دافعا وسببا في عودة واسعة لعدد من القيادات المؤسسة للجبهة إلى أرض الوطن، وما رافقها من عودة لسكان المخيمات، فإن عملية انتقال القيادة، التي ستجري في الأيام المقبلة، ستخلف بكل تأكيد حالة من التذمر والغضب في صفوف سكان المخيمات والقيادات الشابة التي لا يمكن أن تنتظر أربعين سنة أخرى لإحداث تغيير في القيادة، وهنا يفترض في المغرب أن يكون قد وضع حلولا ورسم خططا لمرحلة ما بعد عبد العزيز وأزمة القيادة الممكنة. صحيح أن محمد عبد العزيز قد رحل إلى دار البقاء، لكن الجزائر التي صنعت الصراع في الصحراء، و ضمنت له أسباب وشروط وإمكانية الاستمرار، هي نفسها الجزائر الحالية في صورتها الأكثر بؤسا بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تمر بها، والإنحباس السياسي الذي تعرفه منذ سنوات طويلة، مما يؤكد أن القيادة الحالية لا يمكن أن تنتج سوى ممارسات وأفعال وقيادات تزيد من عمر الصراع في الصحراء.