نشرت جريدة هسبريس مقالا تحت عنوان: "ما سر غياب علماء الدين عن النقاش العمومي بالمغرب؟" وحفل المقال بمجموعة معطيات وفرضيات واستنتاجات من قبل الباحثين الذين صرحوا للجريدة بآرائهم في الموضوع، هي آراء واستنتاجات أرى أنها مبنية على فرضيات أفرزتها ردود أفعال نفسية تنم على الفتور في القدرة على تبيان التمييز بين الدور الديني بالمغرب بالنسبة للمؤسسة الرسمية، ووطأة النقاش المحكوم برؤى أيديولوجية أفرزتها الحداثة السياسية في الواقع الراهن. اعلم حفظك الله أن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء هم من خصهم الله بالوحي، والعلماء هم من ورثوا التفسير والتأويل لهذا الوحي، ولهم القدرة على تنزيله وفق متطلبات وإكراهات الواقع، لقوله صلى الله عليه وسلم :"نحن الأنبياء لا نورث درهما ولا دينارا وإنما نورث العلم". ولقد خاض علماء المسلمين عبر التاريخ مناظرات وسجالات للدفاع عن العقيدة كما نجد في عند الفرق الكلامية، أو مع نظرئاهم من العقائد الأخرى في العصور الفائتة وخاصة مع الديانتين المسيحية واليهودية، وهذه السجالات والمناظرات مكنت من شحذ العقل الإسلامي في مقاومة الأفكار والعقائد، وساهمت في النهضة الحضارية للأمة، وعجلت بتحريك عجلة التاريخ شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. وكان لعلماء المغرب المدد الغزير في بناء الانسانية عامة، والحضارة الأندلسية بأوربا خصوصا ، وفِي نقل علوم الشرق عبر بوابة البحر الأبيض المتوسط، كابن رشد،ابن عربي، ابن خلدون، عبدالله ابن ياسين ... وغيرهم كثر. لا يسع المقال لذكرهم جميعا.. تلاحقت افكارهم و أعمالهم مع سبينوزا و ميكيافيلي وفختة والقديس أوغسطين وغيرهم كثر ممن نقلوا هذه الأفكار وطوروها لتساهم في نهضة أوربا . كما ساهم علماء المغرب أيضا خلال فترة الحماية عبر الحركة الوطنية في استقلال البلاد، وعودة الملك الى عرشه. والْيَوْمَ يتساءل الكثير من الاعلاميين والباحثين عن دور العلماء في البناء الحضاري للأمة المغربية في الوقت الراهن؟ بل هناك من حكم عليهم بالغياب أو شبه الابتعاد عن النقاش العمومي؟ وبين من يرى فيهم علماء يؤثثون الفضاء السلطاني فقط ويضفون الشرعية على حكمه !! لكن تبقى أسئلة أخرى غير مطروحة، إما لقصور المتتبع في البحث داخل هذا الحقل الديني الشائع والكبير والمتعدد الفاعلين والمؤسسات، أو لعدم سبره لأدوار العلماء ومهامهم التي يجب أن يقوموا بها طبق لأحكام الكتاب والسنة و أقوال أهل العلم!!! فسؤال القيم والحداثة داخل المعجم الإسلامي ليس بالغريب أو البعيد عن ثقافتنا الاسلامية، لأننا نجد لها جذورا وتأصيلا في المذاهب الفقهية الأربعة .. كالاستحسان والاستصلاح والاستصحاب والمصالح المرسلة.. وغيرها من القواعد الفقهية التي تستوعب الحدث الإنساني والحدوث الجمادي في كل زمان ومكان .. والمعيار في ذلك قول العلماء :حيثما تكون المصلحة فثمة شرع الله. إن علماء المغرب يجدون في إقامة الأذان خمسة مرات في الْيَوْمَ بجميع مساجد البلاد، وإقامة الجمعة التي يحج لها ملايين المغاربة برهان كاف، وسبب شاف، يجعلهم يترفعون عن الخوض في المعارك الفارغة التي تدور في الفضاء الافتراضي ولا تمت للواقع بصلة. ويجدون أيضا في الإمامة العظمى حصنا حصينا يدافع عن الدين ويذود عن بيضة المسلمين، كما يخول لهم تعليم الناس الضروري من دينهم عبر مؤسسة العلماء التي أصبحت أكثر انتشارا وضبطا ودينامية عبر ربوع البلاد . إن المجالس العلمية لم تعد أكواخا مهجورة كما كانت قبل سنة ألفين، أو ثكنات لتنظيمات تستعملها للتعبئة لحروب معولمة لا نعرف أهدافها ولا غاياتها، بل هي الْيَوْمَ بعد التأهيل الذي طالها منذ أبريل 2004 تقوم عبر شبكة كبيرة متنوعة ومختلفة من القيمين الدينين بتعليم الناس أمور دينهم عبر دورس الوعظ والإرشاد، وبواسطة خطب الجمعة وعن طريق مدارس التعليم العتيق التي تم تأهيلها وفق المناهج الحديثة ... أما سؤال القيم والحداثة وما يحمله من مفاهيم جديدة كحق المرأة في المساواة في الارث وحرية الافطار العلني، وحرية التحكم في الجسد، وحقوق المرأة، وما شابه ذلك من قيم تزحف علينا في عصر الحداثة والعولمة، هي ليست بالأمور الدخيلة على العقل الاسلامي أم القضايا الفقهية والكلامية، بل كان للفقه الاسلامي البحث والتأصيل لهذه النوازل التي طبعت الحياة الاسلامية في عصور سابقة، وما هي الْيَوْمَ إلا إعادة الإنتاج لنفس النوازل في ازمنة مغايرة، لكن أحكامها وتناولها لازال محفوظا وموجودا بأمهات الكتب الفقهية والعقدية. وهذا ما يجعل العلماء في منأى عن الخوض في مثل هذه النوازل التي تدخل ضمن حكم الموجود لا المعدوم.