السبت الماضي خلد شباب الحرية ومجموعة من الفعاليات الحقوقية عبر وقفة رمزية بساحة البريد بالرباط الذكرى 46 لاختطاف و تصفية الشهيد و المناضل و الثوري: المهدي بن بركة في مثل صباح يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965. وصلت إلى ساحة البريد متأخرا قليلاً، كنت أعتقد أنني سأجد الساحة مكتظة عن آخرها و يا لشدة دهشتي و ذهولي عندما فوجئت بالتواجد الهزيل للمجتمع المدني ماعدا بعضا من شباب الأمل من الفبرايريين و بعض المكونات الحقوقية. كان حجم أسايَ و دهشتي أكبر و أعمق عندما تابعت فيما بعد كيف نزل عشرات المنتمين للأحزاب اليسارية و المنضمات الحقوقية الفرنسية لتخليد الذكرى أمام مقهى "ليب" التي اختطف من أمامها الشهيد بالعاصمة باريس من طرف جلاديه. علامات استفهام كثيرة تلك التي انفرجت في أفق تفكيري، و تملكتني.. أين شباب المغرب من تاريخهم؟ و رجالاتهم ؟ بل السؤال الأكثر جدلاً أين أحزاب اليسار المغربية من رموزها ؟ من مناضلين خرجوا من رحمها و وهبوا من دمائهم الزكية من أجل القضية؟ هل اندثرت قدسية الشهداء و أصبحوا فقط رموزا للمزايدة التاريخية للأحزاب الممخزنة المحسوبة على اليسار ؟ أم أصبحوا مجرد صور تؤثث بها ملتقيات و مؤتمرات المفسدين و سماسرة الإنتخابات ؟ لقد كان استغرابي لشباب يعرف "بن عرفة" الخائن أكثر مما يعرف "بن بركة" المناضل الثوري، و هذا بسبب السياسة الإعلامية المخزنية التي تساهم في شرخ الهوة السحيقة بين المواطن و تاريخه و رجالاته و تزيدها عمقاً و قتامةً، فماذا من ننتظر من إعلام تملأه "الجْرّة" و "زطوطوطو" و نفايات إنتاجات المكسيكيين و الأتراك ؟ فعلاً، لقد لعبت وسائل الإعلام دوراً في تحويل المجتمع على وجه العموم و الشباب على وجه الخصوص إلى كينونات استهلاكية تائهة دون هوية و دون أدنى دراية بمحطات أساسية في تاريخ المغرب "المتصرف فيه". إلى مطرقة "الإعلام" لا ننسى أن نضيف سندان "التعليم"، و هنا تتمالكني ابتسامة استنكارية عندما أتذكر برامج مادتي "التربية الوطنية" و "التاريخ" ، بل أبتسم أكثر عندما أتذكر دروس "الإرث" الطويلة المملة التي لم أحتج إليها و لو لمرة واحدة في حياتي لحد الآن !! كان الأجدر على واضعي تلك البرامج تلقيننا تاريخنا الحقيقي و تربية الناشئة على ثقافة المواطنة و حقوق الإنسان بذل ذر الرماد في عيوننا بمناهج "تكليخية" "تضبيعية" غاصت بعقولنا في عالم الظلام بدل تنويرها و التحليق بها في أبجديات نمذجة modélisation المواطن المثالي. و لكن هيهات .. ولكن كل هذا لم يغضني بقد ما أغاضني ما يسمى "بالأحزاب" في المغرب! و خصوصاً اليسارية التقدمية منها، ألم يئن الأوان في خضم حراك الربيع الديمقراطي إلى تحويل "الدكاكين الإنتخابية" التي تفتح فقط أيام الحملة الإنتخابية لتقفل بعدها، إلى "أوراش حقيقية" Ateliers لتأطير الشاب و المواطن و مصالحته مع تاريخه و نضالات شهدائه ؟ ألم يئن الأوان لهاته الأحزاب للكف عن المزايدة بدماء الشهداء فقط لإعطاء شرعيةٍ تاريخيةٍ مستهلكة لهياكل نخرها الصدأ و تآكلت قواعدها بالفساد و الريع السياسيين و السمسرة و احتكار المناصب؟ فحاشا أن يكون الإتحاد الإشتراكي مثلاً بشكله الحالي (مع احترامي للمناضلين الشرفاء) هو الإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي خرج من رحمه مناضل ثوري أممي عالمي من طينة "المهدي بن بركة". لنكن صرحاء مع أنفسنا اليوم، إن المشهد السياسي المغربي اليوم يعاني من نزيف عميق، و الأحزاب السياسية بالمغرب من أكثر الجروح نزيفا، رغم محاولات إنعاش هذا الواقع عن طريق حراك و دينامية الشارع المتجسدة في حركة شباب 20 فبراير المجيدة و التي لا يختلف عاقلان عن النفس الجديد الذي بثته في مشهدٍ سياسي كان يعاني الإحتضار. على أحزابنا اليوم و على "المدعية اليسارية" منها بصفة خاصة مراجعة نفسها بكيفية عميقة و حقيقية ممارسة "نقذا ذاتيا" على غرار ما قام به الشهيد "المهدي" في تقريره "الإختيار الثوري" ، و عليها أن تعيد النضر في طبيعة علاقتها ب"القوات الشعبية"، و تعلم أنه لا سبيل لمصالحة الشاب المغربي لها و استرجاع ثقته بها إن هي لم تسعى للإصلاح الداخلي و تجديد هياكلها وخطابها المستهلك، و تقوم بالدور المنوط بها في تأطير المجتمع و مصالحته مع تاريخه عبر استخلاص العبر من التجارب السابقة و السير على خطاها لفك معادلة الحاضر، و أول هاته الخطوات بهاته المناسبة هو المطالبة بكشف الحقيقة الكاملة عن ملابسات اختطاف و تصفية "عريس الشهداء" و صاحب الروح التي أقسمت ألا تموت : "المهدي بنبركة" .. [email protected] ناشط مستقل بحركة 20 فبراير الرباط