بعد ثلاثة أشهر من رفع شعار dégage في وجه فؤاد عالي الهمة وحزبه من قبل شباب 20 فبراير، وبعد أكثر من سنتين من شكوى الأحزاب من النفوذ المتعاظم لحزب الجرار، جاء جواب المعني بالأمر بعد صمت طويل. أول امس بعث الهمة من عزلته برسالة الى الشيخ بيد الله، الامين العام للحزب، يعلن فيها قرار استقالته من رئاسة لجنتي الانتخابات وتتبع عمل المنتخبين داخل الحزب، في إشارة الى قرب نزوله نهائيا من جرار البام، الحزب الذي أسسه قبل سنتين ليكون ذراعه السياسي القوي بعد ان خرج مكرها من قلعة وزارة الداخلية سنة 2007. بقراره الاستقالة من لجنة الانتخابات، التي كانت تشرف على انتقاء مرشحي حزبه ودعمه سياسيا ولوجستيكيا، يكون الهمة قد قطع نصف الطريق نحو القرار الذي تنتظره الأحزاب وشباب 20 فبراير ومغرب الدستور الجديد. خروج الهمة نهائيا من معترك العمل السياسي والحزبي، ورجوعه الى مكانه الطبيعي مستشارا خاصا للملك، على مسافة متساوية من جميع أطراف العملية السياسية، موظفا في خدمة العرش وليس سياسيا صاحب أجندة. إن إدخال القصر الى مجال المنافسة السياسية، كما الاقتصادية، كان خطأ كبيرا، ولم تكن له دواع منطقية، والآن يدفع الملك، طواعية، تكاليف هذا القرار من سلطاته الواسعة، على ذلك يعيد الثقة بين كل الأطراف، وعلى ذلك يرجع قطار الانتقال الديمقراطي الى سكته الأولى في محيط عربي يغلي بالثورات السلمية والعنيفة. بدهائه وتجربته السياسية يعرف الهمة ان علاقته بالملك يجب ان تكون منتجة للقصر لا مكلفة له، وهو يدرك بحسه البراغماتي ان التنازل في الأوقات الحرجة هو عين العقل، وان التصلب لا يخدم أي طرف، وان عمر البام الافتراضي، على الأقل في نسخته الأولى، قد انتهى، فالخوف الذي كان ينتاب الجهات المحافظة من الإسلاميين لم يعد له داع، بعد ان اتضح ان شباب 20 فبراير يستطيعون ان يشكلوا سلطة مضادة لأي تيار يريد ان يذهب بالمغرب بعيدا عن الخيار الديمقراطي واختيار المجتمع المفتوح. الكثير من القرارات التي ساهم الهمة في صناعتها كانت صائبة، وقدمت خدمة الى الملك والى صورة العهد الجديد، مثل قرار هيئة الإنصاف والمصالحة ووضع بنزكري على رأسها، وخطة إدماج عدد من اليساريين في هيكلة الدولة، ومبادرة نزول الملك الى الميدان الاجتماعي، وتوظيف نفوذه المادي والرمزي لرفع التهميش عن المغرب غير النافع، والانفتاح الإعلامي الذي عرفته المملكة في بداية حكم محمد السادس، كما لعب الهمة دور الاطفائي لنيران بؤر التوتر التي نشبت في اكثر من مناسبة... كل هذا يجيب الاعتراف به للهمة، لكن لابد من مصارحته كذلك بان هناك أخطاء ارتكبها، ومنها اتساع نفوذه الكبير في القرار السياسي والأمني، ثم مبادرته الى إنشاء حزب سياسي التي كانت خطأ قاتلا بكل المقاييس، خاصة عندما وظف وزير الداخلية السابق شبكة علاقاته وسعة خبرته في منافسة خصومه الحزبيين، ووصول حزب لم تمر على ولادته أشهر الى المرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية الأخيرة، حيث تجند ولاة وعمال وموظفون في الإدارة الترابية الى جانب الوافد الجديد من اجل تمكينه من السيطرة على مجالس إدارة عدد من المدن في المغرب. الحزب لا ينشأ بقرار سياسي من الدولة، وطال الزمان او قصر تموت الأحزاب التي لا جذور لها في تربة المجتمع الخصبة، والهمة كان يكفيه ان يقرأ تاريخ أحزاب الإدارة، ومآل جبهة اكديرة، ليتأكد من هذه الحقيقة، فإذا كانت الأحزاب السياسية المغربية ضعيفة، حسب ما كان يروج له الهمة، وجزء من هذا التوصيف حقيقي، فليس الحل هو إطلاق النار عليها... الحل كان هو مساعدة الأحزاب على استرداد عافيتها لتقوية حضورها في ساحة الحكومة، كما في المعارضة، والكف عن احتقار دورها، والامتناع عن التلاعب بقياداتها، فما معنى ان يعد الهمة ورفاقه جزءا من لائحة وزراء عباس، ثم يصطفون مقابلها للعب دور المعارضة؟ وما معنى ان يضع الهمة لائحة العمال والولاة وهو زعيم حزب في المعارضة؟ أي معارضة هذه التي تتحكم في القرار أكثر من أي حكومة مرت في تاريخ المغرب؟ يعرف خبراء الانتقال الديمقراطي، حول العالم، التحول الجوهري من السلطوية الى الديمقراطية بالقول: "انها عملية سياسية تجري بين المعتدلين في كل الأجنحة المتصارعة حول السلطة"... لماذا المعتدلون وليس المتشددين؟ لأن الأولين يقبلون تقديم تنازلات لبعضهم، ويؤمنون بالتدرج السلمي نحو التغيير، وهم مستعدون لدفع فاتورة الإصلاح، فهل سيختار الهمة مقعده ضمن هؤلاء المعتدلين، أم إنه سيختار صفوف الصقور المتشددين؟ إنها لحظة دقيقة وحساسة في حياة الهمة.