لنا أن نتصور كيف ستصير علاقة المواطن الذي يغني ويرقص و يصرخ بصوت صاخب ، أمام جاره الذي فقد عزيزا إثر مصاب جلل ، فبدون شك ستتدهور قيم الجوار بينهما، بسبب عدم إستحضار الواجب الديني، والوطني، الإنساني والأخلاقي ،الذي يفرض إحترام المآسي ، وتغييب إظهار الفرح أمام عين شخص حزين، لكن تدهور العلاقة بين فردين بسبب خطأ أحدهم قابلة للترقيع إذا دخل حكيم بينهما بخط أبيض ، وفي المقابل سيكون إصلاح ذات البين صعبا، إذا صدرت الإساءة من جماعة ضد جماعة أخرى ، وهذا ما ستسقط فيه جمعية مغاربة العالم ، بعد أن أعلنت عن تنظيم سهرة غنائية بكورنيش مدينة الناظور ، إحتفاء بالمواطنة ، لكن دون أدنى مراعاة لمشاعر عائلات وأسر الأطفال الذين ذهبوا ضحية حادث سير مؤلم الأسبوع الماضي بمدينة طانطان المغربية ، إثر تعرض جثثهم للإحتراق داخل حافلة كانت تقل تلاميذ صغار أثناء عودتهم من بطولة مدرسية. جمعية مغاربة العالم ، التي قررت تنظيم سهرة غنائية بمدينة الناظور ، إختارت شعار " المواطنة " ، لكنها تطأ بأقدامها من يُنَزلُ هذا المفهوم على أرض الواقع ، أي المواطن الذي لن يتحقق بدونه الوطن ، بل تهين بهكذا سلوك الشعب الذي يشكل أحد أبرز مقومات نشوء الدولة ، إذن فكيف يمكن أن يحس المكلومة قلوبهم في مدينة طانطان بهذه المواطنة التي ستحتفي بها الناظور بواسطة الغناء والرقص ، بل الموقف أبشع مما قد نتصوره ، إذا كشفنا عن مشاعر عائلات الضحايا تجاه هذا الإحتفاء الغريب ، والأمر سيصعب تبريره إذا اسْتُغِلت ردود الفعل إزاء السهرة الغنائية المذكورة في أمور منافية و أشهر من يقتاتون على زرع الفتنة أسلحتهم المظللة للرأي العام ، خاصة و أن الحديث هنا عن الريف الذي يستهدفه الكثيرون من أجل تلطيخ سمعته ، فأي مواطنة إذن يقصد الراقصون في المقابر ؟. إذا إفترضنا جدلا ، أن أهل الناظور في حاجة إلى تحرك عاجل لتعزيز الإحساس بالمواطنة لديهم ، وهذا إفتراض يبقى غبيا نوعا ما ، فهناك عشرات الطرق لإحياء مثل هذه المبادرات، ومن ضمنها الملتقيات و الندوات و اللقاءات المفتوحة و قوافل التوعية ... وغيرها من الأنشطة الخلاقة و المُهَذبَة لكن سلك طريق الصخب والضجيج الموسيقي ، في هذا الوقت بالضبط ، يطرح الكثير من علامات الإستفهام ، والتخوف من تسبب السهرة الغنائية المذكورة في رسم صورة قاتمة عن مدينة المقاومة وجيش التحرير في أذهان إخواننا بالصحراء المغربية بإعتبار مدينة طانطان جزء لا يتجزء من هذه الجهة ، يبقى قويا لدى من يخشون حقا على هذا الوطن ، ويسعون إلى صيانة نعمة السلم الإجتماعي التي تنير جميع أجزاءه. إن الناظور ، بأهله المبادرين دائما إلى إحياء المشترك بين جميع مكونات الشعب المغربي ، لم يسبق لهم أن كانوا سببا في تعميق جراح من حكم عليهم القدر بمعاشرة الأحزان ، بل إن سكان هذا الإقليم ، القلب النابض للريف ، أسالوا الكثير من الدموع كما الدماء أيضا ، ووضعوا لأكثر من مرة كل الغرائز المحببة للإستمرار في العيش جانبا من أجل الإنخراط في تأدية ضريبة الدفاع عن الإنتماء ، حيث قدموا تضحيات جسام لطرد المستعمر من أرض الوطن ونزعوا عباءة الحياة لينعم المستقبل في السلم والديمقراطية والأمان ، فهذه هي المواطنة المقصودة، أما أن تطلب جهة ما هؤلاء المواطنين قبول دروس عرجاء في المواطنة ، فهو أمر مرفوض ومنافٍ للمشاعر الحقيقية، بل هو تحرك مليء بالمزايدات والخلفيات المسيئة لسمعة الإقليم ، خاصة و أن الدعوة تروم التجييش للرقص دون أدنى إحترام لجثث أطفال إستشهدوا بعد عودتهم من سفر طويل تحملوا عناءه رغبة في التعبير عن حبهم للوطن. وعودة إلى مفهوم المواطنة ، من أجل توسيع وعاء الفهم و الاستيعاب لدى من يعتقدون أن تقوية الإحساس بالإنتماء للوطن يتحقق بالعزف على البيانو و القيثارة و الرقص من فوق الخشبة في الفضاءات العامة ، لا بأس من تسليط الضوء على المجهودات التي قدمها منذ القدم رواد أبرز المدارس الفلسفية والمنظرون ، من أجل إعطاء تعريف صحيح للمواطنة ، حيث ربطوا بين تحقق هذا الشعور في الفرد وجملة من الشروط ، وإعتبروا المواطنة الحقيقية على انها تشكل عموما مجموعة من الحقوق والواجبات التي تلزم المواطن القيام بها اتجاه وطنه ، ويصف في هذا الإطار جون جاك روسو أحد رواد نظرية " العقد الإجتماعي " المواطنة بأنها ذلك الرابط الذي يجمع المواطن بوطنه وفق عقد إجتماعي يتنازل بموجبه كل فرد عن جزء من حرياته و خصوصياته من أجل تحقيق مفهوم الدولة المواطنة التي تحفظ الحقوق والواجبات رغم إختلاف الأعراق والديانات والإنتماءات القبلية والإثنية ، ومن هذا قد نستنتج بأن الدولة المواطنة تتحقق داخل المجتمعات التي يُغَلبُ أفرادها الحس الجماعي عن الغريزة الفردية ، وتختل ، أي المواطنة ، حين يسود منطق الأنا بين المواطنين ، وتطفو بذلك علامات الكراهية و الحقد التي تصيب في الأخير الجسد المجتمعي بالشرخ. وأخيراً وليس آخراً ، إن بذلة المواطنة ألبست ظلما لهذه السهرة ، وسيظلم الريف مجددا مادامت الناظور إستثنيت من حداد أطلقته فعاليات المجتمع المدني بالمغرب بعد تنازلها على إقامة جميع الأنشطة الإحتفالية المنافية للمآتم في إطار تقديم التعازي والمواساة القلبية لأسر ضحايا طانطان ، و ستنهال على ساكنة هذا الجزء الغالي من البلاد تعاليق الإساءة و التجريح ، وسنقول أنذاك أننا صغار في عيون المغاربة ، لكن في هذا الزمان وفي كل تلك الأمكنة التي سنتعرض فيها للإساءة لن يقبل منا عذر أو مبرر ما دمنا إخترنا الضرب على الدفوف أمام مرآى ومسمع أمهات إحمرت عيونهن من شدة البكاء تأثرا بفقدان فلذات أكبادهن ، ... أنا بريء منكم.