مدخل لا يمل المراقبون بين كل فترة وأخرى من التساؤل عن "موقع" جماعة العدل والإحسان داخل النسق السياسي المغربي، وكذا عن "مواقفها" من عدة قضايا ومستجدات وطنية وعالمية، مما يعطي الانطباع بوجود سوء تفاهم كبير بين الجماعة وهؤلاء المهتمين، مرده أساسا إن لم نقل حصرا إلى أحد أمرين: إما لغموض خطاب الجماعة، أو لعدم قدرة هؤلاء على فهم المنطق الذي يحكم فعلها ويتحكّم في سلوكها السياسي، وإصرارهم على إسقاط قواعد تعارفوا عليها على حركتها، ومن ثم محاولتهم قولبتها وتنميطها، واستبعادهم إمكانية أن "تخلق" أعرافا سياسية جديدة غير مسبوقة. هذا المقال يطمح أن يكون في مستوى الدفاع عن دعوى عريضة تؤكد من بين ما تؤكد عليه أن الجماعة في الكثير من حركتِها، كما تصوُّرِها، تنسُج على غير منوال، وأنها تُبِين كل مرّة عن قدرة عالية في إدارة قواعد اللعبة السياسية. عندما تحكم الثعالب العجوزة أظهر "المخزن" لحد الآن حنكة وبراعة كبيرتين في إدارة أغلب "معاركه السياسة" مع خصومه، هل هذا يعني أنه قوي، ومتجذر، وشعبي؟ كونه متجذر هذا ما يثبته التاريخ، أما الشعبية فلا أحد ينفي تمتع الملك وليس "المخزن" بجزء كبير منها، أما قوته فنابعة، ليس من بنيته، بل أساسا من ضعف الفاعلين السياسيين الآخرين وتشرذمهم. لقد استطاع المخزن أن يضعف الأحزاب السياسية، ويفخّخ بكيفية مكيافيليلية بارعة العلاقة بينها، إلى حدِّ أصبح المشكل الكبير الذي تعاني منه السياسة المغربية هو انعدام الثقة فيها أولا، وهذا ما تشير إليه مقاطعة الانتخابات، باعتبارها لامبالاة تعبر عن موقف سياسي واع، ثم انعدام الثقة بين الفاعلين فيها ثانيا، فالكل متخاصم، والكل يطلب تحكيم الملك. لكن للأسف بعد أن كانت الخصومة، ذات يوم، أيديولوجية عقدية تحولت بالتدريج إلى عداء سافر حول المصالح والمناصب. فما موقع الجماعة داخل هذا النسق؟ وما موقفها منه؟ المشروع المجتمعي: عناوين كبرى لا تمل الجماعة، في كل مناسبة، من التأكيد على أن مشروعها المجتمعي، الذي شرعت تبشر به منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي مع بيانها الأول "الإسلام أو الطوفان"، ينهض على عناوين مجملة يقوم موقعها السياسي ومواقفها في كل حين على توضيحها وتفصيلها حسب ما تقتضيه الحاجة؛ هذه العناوين هي: العمل السلمي ونبذ العنف بكل أشكاله وأنواعه. جعل الإنسان مركز أي تغيير. التبشير بالخيار الوسطي في فهم الإسلام والدعوة إليه. الخيار التّشاركي المفضي إلى الميثاق الجامع. المقاربات "المخزنية": الرفض الكلي المطلع على أدبيات الجماعة ومواقفها يعرف جيدا أنها كانت سباقة دائما رفقة قلة من الفضلاء إلى التنبيه لخطورة الاختيارات التي تتبناها السلطة، وما فتئت تشير إلى أن "المقاربات المَخْزَنِيَّة" تعمل عن وعي على قتل السياسة، بما هي تضافر جهد وعمل كل الفاعلين على إدارة شؤون الوطن، والهدف هو محاولة الانفراد بالقرار السياسي والاقتصادي، والنتيجة هي وجود البلد على صفيح ساخن ينذر في كل لحظة بانفجارات اجتماعية، وقبوعه في قاع كل التقارير التنموية العالمية. وهذا يثبت أن جل ما اعتبرته الجماعة في حينه استشرافا أصبح بعد حين واقعا. ضمانتان ضد الانحراف والسؤال هنا: ما الذي منح الجماعة هذه الدقة في قراءة الواقع السياسي؟ في كلمة؛ إنهما عنصران أساسيان؛ هما بمثابة ضمانتان تحولان ضد أي انحراف في مواقفها: مبدأ الشورى المعتمد في كل مؤسساتها، والمتحكم في كل قراراتها، ثم مبدأ الاستقلالية التامة في كل مساراتها واختياراتها، وعدم الارتهان لأي جهة مهما كانت، فلم يثبت أبدا أن صدر عنها أي قرار انتفى فيه هذان الشرطان. وهنا يكفي أن نعطي مثالا من آخر موقف قوي اتخذته الجماعة؛ ونقصد به الخروج من "حركة 20 فبراير"، فالكل هاجمها حينها، لكن الأيام أثبتت أنها كانت "ضربة المعلم" كما عبر أحدهم والسبب هو دقتها في تقييم مسار الحركة، وحسن استشرافها لمآلاتها. وخارجيا؛ كانت الجماعة سباقة لاستشراف مآلات الربيع العربي؛ فطالما نبهت مثلا لخطورة تسليح الثورة، لأن ذلك ضرورة وحتما مجلبة للتدخل الخارجي، والنتيجة سلبها لاستقلالية قرارها. في نقد العلاقة بين "المخزن" والعدالة والتنمية ... أو حكاية الذئب والحَمَل آخر الملتحقين بطابور "الخدّام" حزب العدالة والتنمية، والذي قيل لنا ذات مرة بأنهم سيدخلون للتجريب فقط، فإذا لم يجدوا ما ينتظرونه، أو لم يُسمح لهم بتطبيق مشروعهم سينسحبون، لكنهم تحوّلوا إلى مدافعين أشداء على الحكّام الحقيقيين، مع ما يصاحب ذلك من خطاب عاجز شعاره سب العفاريت والتماسيح. حتى أن السلطة لم تسمح للحزب بلعب ولو دور "الصّبّاغ" كما أراد. لقد مارس الحزب السياسة ب"ابراغماتية" في درجتها المنحطة؛ فشخصيا لم استوعب أبدا قدرة رموز الحزب وخاصة رئيسه على التبشير بموقف ثم تبرير نقيضه في زمن سياسي قياسي. الذي لا يريد إسلاميو العدالة والتنمية أن يستوعبوه أن السلطة تعمل حثيثا على ضرب على الأقل عصفورين: تمرير قرارات اجتماعية واقتصادية لا شعبية غير مسبوقة، مستغلة صمت الناس وخوفهم من كل حركة قد تجر البلد إلى ما يسمعون ويشاهدون، ثم العمل على إفشال وجود الإسلاميين في الحكومة، حتى تقنع الجميع بأنهم لم يخلقوا للحكم وإدارة الشأن العام، بل فقط للمعارضة المفضية للسجون، وفي أحسن الأحوال للوعظ والإرشاد. [ أما قصة الذئب والحمل فخلاصتها: لن ترض عنك السلطة إلا أن تخرجَ من جلدك، ومن ثمَّ فأنت مأكول مأكول ! ] الجماعة محورا سياسيا بعد أن لعبت السلطة بكل أوراقها السياسية، وكان آخرها إسلاميو العدالة والتنمية، أصبحت الجماعة تحس بأنها أضحت الآن محورا مركزيا في كل التدابير السياسية للسلطة، بل إنها تدّعي بأن الأمر بدأ معها منذ أيام الحسن الثاني؛ فما لا يعرفه الكثير أن رغبة المخزن في إدخال الإسلاميين إلى "اللعبة السياسية الرسمية" عن طريق "إلحاقهم بحزب قائم" جُرِّب أولا مع الجماعة، والأستاذ الخالدي مازال حاضرا بيننا وهو أعلم بالأمر. ولكنها رفضت أن تكون "لاجئةً سياسيا" في بلد يدعي حكامه بأنهم يحكمون واحة من الديمقراطية وحقوق الإنسان. السؤال الآن: بعد أن استنفذت كل الأحزاب صلاحيتها لدى "المخزن"، ما هي الورقة المقبلة التي يفكر في استغلالها لإدامة حالة "الانتظار" المتعبة التي تعيشها البلد؟ وتذكروا أن الظروف التي جعلت الملك الراحل يعلن حالة "السكتة القلبية" كانت أحسن بكثير من الظروف الحالية. الجماعة عامل توازن وصمام أمان الجماعة تعي أنها أصبحت تشكل عامل توازن مهم، بل وصمام أمان ضد أي انفجار يحرق البلد، وهذا ما يجعل بعض المتابعين خاصة اليساريين يتهمونها بأنها تلعب دورا سلبيا باعتبارها بشكل أو بآخر ضمانة ضد انفجار الثورة المحرقة. بينما نعتها بعض الصحفيين بأنها ثلاجة. إن هؤلاء لا يعرفون سوى الثنائية الضدية: الدخول إلى اللعبة بشروط "المخزن"؛ وهذا يعني استمرار الاستبداد، أو غرق البلد في الفتنة والاقتتال المفضية إلى التدخل الخارجي، الذي يعني كما سبق القول فقدان استقلالية القرار، وخدمة أجندات لا وطنية. استراتيجية "خذ وطالب" المتمعن في مواقف الجماعة يخرج بانطباع أساسي مفاده أنها تتبع أسلوب "خذ وطالب" مع استثمار كل عناصر قوتها للضغط المستمر كيما يزحف المخزن على المكتسبات، كل هذا مع استيعاب دقيق لموازين القوى المحلية والدولية؛ وهذا ما يجعلها مرة تقتحم في اتجاه نيل المطالب، لكنها لا تجد أي حرج في الانحناء أمام العاصفة حفاظا على الذات وحمايةً للوطن؛ وهنا تعطى الأولوية للبقاء وُقوفا. لماذا لا تشارك الجماعة في "اللعبة السياسية" ؟ في لقاء بثته قناة "الشاهد" المحسوبة على الجماعة مساء الأربعاء 8 أبريل 2015 أشار الأستاذ فتح الله أرسلان الناطق الرسمي باسم الجماعة إلى أن الأصل أن تشارك الجماعة ومعها جميع الفاعلين في إدارة الشأن العام؛ لكن الواقع السياسي الذي تعمل السلطة على فرضه، والذي يتّسم ب"الميوعة السياسية" أنتج مؤسسات صورية، ومن ثم فقد عبر عن رفضه المشاركة في أجهزة يكونون فيها عبارة عن ديكورات فقط، على حد تعبيره. ثم انتقد ما يسمى ب"خيار الإصلاح من الداخل"، واتهم أنصاره بأنهم يشوهون الحقيقة ويلفقونها، على اعتبار أنهم يروّجون لنتائج بسيطة تحققت، ولكن بسبب الحراك الشعبي وليس نتيجة خيارهم وإدارتهم، هذا الحراك الذي غابت عنه جل الأحزاب السياسية المعروفة، ولم يكتف حزب العدالة والتنمية بالغياب بل قدّم نفسه مدافعا وحاميا لسلطة مستبدة وفاسدة. إن المطلوب حسب الجماعة الجلوس أولا كأطراف لتغيير قواعد اللعبة، وماعدا ذلك تفاصيل. الحل ينبغي أن يناسب طبيعة الأزمة تؤمن الجماعة بأن الأزمة السياسية في المغرب عميقة ومتجذرة، وهي تكمن في "طبيعة النظام وبنيته"، ومن ثم تطرح تصورها السياسي على أساس إعادة بناء الحكم على قواعد جديدة؛ فلا يكفي أن يقوم "حراك" ما بإزاحة رموز النظام من مواقعهم، بل لا بد من تقويض الأركان والأسس، وهذا يستدعي حضور أمور كثيرة؛ من بينها: وضوح المشروع المجتمعي المعارض. تمتع هذا المشروع بحاضنة اجتماعية معتبرة. الاقتناع بالمقاربة التشاركية كخيار استراتيجي. التركيز على القيم المشتركة عوض المبادئ الإيديولوجية والعقدية التي غالبا ما تكون سببا في إفشال أي فعل تشاركي. العمل على إيجاد تنظيمات قوية وقيادات حكيمة. تفهم موازين القوى. عدم الدخول في معارك هامشية تستنزف الطاقة والجهد. احترام عنصر الوقت