لم يكن العم "اعْمَارَ" من خدام الدولة فقط، بل كان من الشعب أيضا، كرس حياته فداءً للوطن، مرابطا على حدوده الشرقية والجنوبية، واضعا روحه على كفه، وسلاحه على كتفه، مراوغا رصاصات الموت التي لم يكن يعلم من أين ستأتيه، قانعا بما قسم الله له ولأبنائه فوق هذه البسيطة، راضيا بقدره المحتوم الذي لم يكن يشك أنه الموت برشاش العدو المتربص به من كل جانب. كان للعم "اعْمَارَ" زوجة وولدان يقيمون بحي من الأحياء الشعبية ببني مكادة، وكان يزورهم لأيام معدودات كل ثلاثة أو أربعة أشهر. مدة لم تكن كافية لإشباع شوقه إليهم، وشوقهم إليه. ورغم ذلك، كان لا يغفل دوره كأب مسؤول عن متابعة مسيرة أبنائه الدراسية، فكان كلما حل بطنجة، توجه إلى المدرسة سائلا عن ولديه وأحوالهم مع التعليم والمعلمين. آواخر ثمانينات القرن الماضي، أحيل العم "اعْمَارَ" إلى التقاعد، وعاد ليستقر مع زوجته وولديه ببيت متواضع كان يستأجره. لم يكن يملك منزلا، ولا شقة، ولم يستفذ من تجزئة أرضية مخصصة لخدام الدولة بثمن تفضيلي، ولم يُمنح مأذونية نقل كما منح الكثيرون ممن هم في غناً عنها، ولا تعويضا عن نهاية الخدمة كالتي توزع بالملايين على الوزراء، بل عكس ذلك، انتظر شهورا عديدة حتى توصل بمعاشه الذي كان في حدود أربع مائة درهم. مبلغ لم يكن يكفيه حتى لأداء واجب كراء البيت الذي كان يأويه وأسرته. اشتدت أزمات العم "اعْمَارَ" المادية أمام متطلبات العيش، واحتياجات الأولاد والزوجة التي غادرته بعدها غير مستوعبة وضعها الجديد، وأحس أن مشواره الذي ظن أنه قد انتهى بتقاعد يريحه ويجمعه بفلذتي كبده قد ابتدأ للتو، ولم يكن من السهل عليه إيجاد عمل يحسن به وضعه المادي، فقد تقدم به العمر، وظهرت عليه علامات الكبر، وآثار الإصابات التي تلقاها خلال المعارك التي خاضها إبان حرب الرمال، وغيرها من المواجهات مع البوليزاريو...، فما كان أمامه سوى استغلال ساحة بالحي الذي كان يقطنه، وبموافقة الجيران طبعا حوّلها إلى موقف للسيارات، عمل على حراسته ليلا، مع الإشراف على غسل عدد من سيارات الأجرة التي كانت تبيت بموقفه، وهكذا اجتاز نوعا ما محنته التي كادت أن تنتهي بأسرته مشتتة، وبأولاده مشردين. تزوج العم "اعْمَارَ" ثانية، فقد كان مقتنعا أن يوما سيأتي عليه لن يجد فيه من يمكنه من شربة ماء، ولا قرص دواء...وهكذا استمرت الحياة في بيته المتواضع، ورزقه الله بأطفال آخرين، وصار يحرص الموقف والحي معا، محدثا جوا عائليا مرحا بين شبابه، جاعلا من مكان حراسته مقصدا لكل راغب في قضاء وقت ممتع في الحديث والنقاش والنبش في الذاكرة. قص علينا العم "اعْمَارَ" الذي كنا نناديه ب " مون شاف" كل شيء عن حرب الرمال، عن معركة "حاسي بيضة" التي نشبت بسبب بئر ونخلة - حسب قوله -، وحكى لنا كيف أن عسكر الجزائر هاجمهم على حين بغتة، واعتدى عليهم، وقتل العديد منهم، وكم كنا نحس بالعظمة تتملكه وهو يتحدث عن الرد المغربي، والتوغل في التراب الجزائري، وعن قدرة الجنرالات المغاربة على رد الصاع صاعين.... رفع " مون شاف " مرة قميصه، فكانت الثقوب تملأ بطنه، ثقوب الرصاص الذي تلقاه دفاعا عن الأرض والعرض. هذه في حاسي بيضة، وهذه في أسا الزاك، وهذه، وهذه.. كان يعتبرها أوسمة توشح جسده، وميداليات أثمن بكثير من تلك التي أحرزها العداؤون المغاربة في بطولات دولية، حدثنا عن المآسي، عن المعانات، عن القلق... وبين هذا وذاك، كان يضحكنا بمواقف طريفة حدثت له أثناء فترة عمله، فلم يُخفِ أنه وزملاءه أكلوا لحم الذئب، وقال لنا أن الذئب لحمه مر، لكنهم أكلوه انتقاما منه لافتراسه ماشيتهم ودجاجهم. كان "مون شاف " وطني أكثر من غيره من هؤلاء الذين يتمتعون بخيرات البلاد دون حق. لم يفوت يوما خطبة للراحل الحسن الثاني، بل كان يتسمر في مكانه أثناء سماعه للنشيد الوطني، ويؤدي التحية كلما رأى العلم المغربي. وطني عاش حياته متسائلا دائما" لماذا لا يؤدي موظفو الوكالة المستقلة الجماعية لتوزيع الماء والكهربا فواتير استهلاكهم لهاتين المادتين ، رغم أنهم يتقاضون رواتب محترمة، فيما أؤديها أنا الذي كرست حياتي كلها في خدمة الوطن، وأتقاضى بضعة دراهم ؟ رحل العم " اعْمَارَ" إلى دار البقاء في السنوات الأولى من القرن الحالي، بعد معانات طويلة مع المرض، لم يتكفل أحد بمصاريف علاجه، ولم يهتم أحد لحاله، سوى المحسنين من ساكنة الحي، الذين أعانوه على مصاريف العلاج إلى أن حان موعد الرحيل، تاركا وراءه زوجة وأبناء بمعاش يخجل المرء من ذكره، فاسحا المجال أمام خدام الدولة الأوفياء، الذي سطوا على البر والبحر والهواء، متناسين أنها دار الفناء، وكل شيء بعدها يصير هباء. ألا رحمة الله عليك وعلى أمثالك يا " مون شاف "، أشهد أنكم أنتم خدام الدولة بحق، وغيركم ليسوا إلا خداع الدولة، وخداع الشعب..!