منذ أكثر من أسبوعين وأنا أتواجد في قرية أمتار الجميلة، هي بلدتي حيث ولدت وترعرعت إلى غاية السادسة ابتدائي، أتوجه إليها كل عطلة صيف للاستمتاع بشاطئها الازرق الفسيح وحقولها الخضراء المريحة، وأيضا لتذكر ذكريات الطفولة هنا وهناك بين طرقاتها ومبانيها القديمة. أمتار هي جماعة قروية تابعة لاقليم شفشاون، وهي جماعة قبيلة بني جرير، القبيلة التي تنتمي إليها العديد من الدواوير والقرى المتفرقة بين شعاب سلسلة جبال الريف، وتضم أزيد من 10 ألاف فرد كإجمالي عدد سكان هذه الجماعة وفق احصاء 2014. كل عطلة صيف أقضيها في هذه القرية، وتكون عطلة سعيدة، حتى يخيل إلي أن كل شيء سعيد في هذه القرية، ولا ينقصها شيء يمكن أن ينغص عليها هذا الحبور. لكن عطلة الصيف هذه كانت مختلفة، وقع معي فيها حادث عرضي جعلني أكتشف أن الناس في هذه القرية لا يُسمح لهم فيها بالمرض!!. كان اليوم يوم سبت، عدت من الشاطئ إلى المنزل لأكتشف أن أخي وقع له نزيف دموي حاد من أنفه، بسرعة أخذته إلى المستشفى الوحيد في هذه القرية الساحلية، المستشفى الذي يستقبلك بحالة متردية كعلبة سردين انتهت صلاحيتها منذ زمن. وبما أن اليوم هو يوم السبت، حيث يغلق المستشفى أبوابه – رغم أن لا فائدة منه حتى لو كان مفتوحا- قمت بالاتصال بالرقم المخصص للحالات المستعجلة، وكان الرقم مكتوبا على ورقة مثبتة على باب المستشفى، فأجابني صوت نسائي يخبرني بالقدوم بعد وقت قصير، وكذلك كان. هي ممرضة في مقتبل العمر، فتحت باب المستشفى ودلفنا إلى الداخل، ثم طلبت من أخي أن يجلس على أحد الكراسي عندما أخبرتها بما وقع معه، فقامت تجهز نفسها للقيام بما يتطلب في هذه الحالات بعدما استشارت أحد الأطباء عبر الهاتف. أثناء وضعها بعض الثلج على أنف أخي وإعدادها لإحدى الحقن، كنت أنا في وسط المستشفى أتمعن في تلك الحالة المؤسفة والمؤلمة، نفايات عبارة عن أكياس بلاستيكية للحلوى مرمية على الارضية، الاوساخ على الحيطان، والشقوق في الاسقف التي بدأ تتساقط منها طبقات الطلاء. الحقيقة يمكن أن تسمي هذا المكان أي شيء إلا اسم المستشفى، خاصة أنه بالإضافة إلى هذا المظهر المزري، لا توجد به العديد من الأدوية المهمة والحيوية، فبعد حقن أخي بحقنة لوقف النزيف، تأسفت لي الممرضة أن دواء "Biogaz" التي توضع بعض الشرائح منه في فتحتي الانف لوقف النزيف وتنظيف الأنف لا يوجد. المشكلة لم تقف هنا، إتصلت الممرضة بصاحب الصيدلية -الوحيدة أيضا في قرية أمتار- لتسأل عن ذلك الدواء، إلا أنه أخبرها بعدم وجوده، والطامة الكبرى أنه بدوره، أي صاحب الصيدلية، غير موجود في القرية، بمعنى إذا كان أحد ما في حاجة ماسة للدواء في أمتار عليه أن يرحل لمكان أخر بحثا عنه في تلك الاثناء. الممرضة قطعت الاتصال وهي متبرمة، وقالت أنه ما كان على صاحب الصيدلية أن يكون خارج القرية بتاتا، ثم أضافت تشتكي بدورها بعدما رأت على محياي علامات الغضب، " الأمر مؤسف حقا، لا يوجد شيء هنا، في أبسط الحالات نضطر لإرسال المرضى إلى المدن، وحتى الدواء نطلبه من منطقة بوحمد أو الجبهة أحيانا". أمام هذا الوضع اضطررنا أن نتصل بأحد الاشخاص ليجلب لنا الدواء المطلوب من مدينة الجبهة المجاورة، وحدث ذلك بعد أزيد من ساعتين، حينها عدنا من جديد إلى الممرضة التي أكملت عملها ووضعت شريحتين من "Biogaz" في أنف أخي وعدنا إلى البيت بعدما توقف النزيف. قبل حادثة المستشفى كنت شخصا أخر، شخص سعيد بقريتي بشاطئها الجميل وأنشطتها الكروية، وبعد حادثة المستشفى أصبحت شخصا أخر، شخص حزين بقريتي التي تعتبر جماعة مسؤولة على أزيد من 10 الاف إنسان، وهؤلاء جميعا عليهم ألا يمرضوا لأن لا مستشفى ولا طبيب ولا دواء ينتظرهم. هذه الحادثة وقعت بيوم واحد فقط من انتهاء أحد أكبر الدوريات الكروية التي نُظمت في قرية أمتار، وكانت الجماعة القروية لأمتار إحدى الجهات المنظمة، وصرفت أموالا مهمة في اقامة هذا النشاط، ورغم أنه نشاط أدخل السعادة إلى قلوب الكثيرين، إلا أنني أقول الان، أصرفوا تلك الاموال على تجديد المستشفى واجلبوا الاطباء والدواء خير من ألف نشاط ترفيهي. أقول هذا بعدما فكرت مليا وأنا أعود إلى البيت في ذلك المساء، حوالي 3 ساعات لوقف نزيف دموي قدر الله أن لا يكون خطيرا. ماذا لو كان العكس؟ أليست 3 ساعات كافية أن يفارق الشخص الحياة ويشبع موتا؟ من يزور أمتار ويرى المستشفى الوحيد الذي بها، لا شك أنه سيعتقد أنه لا يوجد مرضى هنا، فالمستشفى يبدو بناية مهجورة. غير أن الحقيقة شيء أخر، الناس مهددة بالمرض والموت في أية لحظة بهذه الجماعة. وإلى حين أن تنهض همام مسؤولي جماعة أمتار واقليم شفشاون للنظر في هذه المسألة الخطيرة، أنصح الزائرين بأن لا يمرضوا في أمتار، فالمرض غير مسموح به حاليا.