حميد طولست زهرة اللصقة نموذجا. وصلتني رسائل كثيرة تنتقد مقالتي المنشورة قبل أيام تحت عنوان "لماذا نكره الاصطفاف في طوابير الانتظار؟" والتي تطرقت فيها لما يعطيه الشعب الفرنسي بكل مكوناته ، من أهمية بالغة لسلوكية الانتظار في الطوابير ، حيث قلما تصادف من يقفز متجاوزاً دور غيره في الصفوف المرصوصة أمام المصالح الرسمية وغير الرسمية من متاحف ومسارح ومخابز ومتاجر ، والتي يمضي فيها الإنسان الأوروبي –البريطاني - في المتوسط سنة وأسبوعين ويوماً من حياته في وقوفا في الطوابير ، كما جاء في كتابات المؤلفة " كيت فوكس" ، ما كنت أتصور أن تجر مقالتي وراءها كل ذاك السيل العارم والخضم الواسع من الانتقادات اللاذعة ، رغم أنني ولم أقم بأكثر من المقارنة بين ذلك وبين تعاملنا كشعوب متخلفة مع الطوابير ، وإستخفافنا بالإنتظام فيها ، واستهجانه كسلوك إنساني متحضر، المقارنة التي لم أقصد بها –رغم اعتبار بعض المنتقدين استلابا للغرب وتبعية للكفار - أن أمس بكرامة المغاربة ، أو ألطخ سمعة المغرب أو أنفي عنهم خصلة احترام الطوابير واحترامها ، بالمرة ، وإنما ركزت على الطريقة التي يقفون بها في الطوابير الطوعية، التي أفرزتها الحياة المعاصرة وقدرتهم ورضاهم وصبرهم على الانتظام فيها ، وتصرفاتهم التلقائية أثناء الوقوف . كم استغربت غباء وسداجة نوعية الأمثلة التي ضربها بعض المنتقدين ، على تخلق مجتمعنا بسوكيات الوقوف في الطوابير ، واحترامهم لها ، كباقي عباد الله في كل بلدان العالم ، حسب الأمثلة "البايخة" التي أخجل من ذكرها ، والتي تحدد -كما يقول لارسون- جنسية الأشخاص المنتظمين في الصفوف ، وتعطي صورة عن أصولهم الثقافية ، وتفضح قلة صبر غالبيهم على الوقوف في الصفوف ، وتفضيلهم الفوضى والقفز على أدوار الغير ، الأمثلة التي ذكرتني بأول طابور حقيقي رأيته في حياتي خارج طوابير المدرسة الإبتدائية بصفوفها المتراصة أمام الأقسام عند الدخول كل اليوم ، وتلك المنتظمة أمام مكتب الممرض الذي يحضر لفحض عيون التلاميذ ويملأها ب"البومادة" وطابور"لاكونتين" الصباحي الذي كان يوزع خلاله على التلاميذ "الحليب ديال الغبرة " وأقراص دقيق السردين المقلية ، والذي كان الطابور الذي اعتادت نساء الحي الانتظام فيه عند "سبالة أو سقاية الدرب " لجلب الماء لمنازلهن.. وأذكر جيدا أنه كان في الحي الشعبي -فاس الجديد ، الذي عشت فيه طفولتي ، وبالضبط ب"درب الزاوية" - سيدة تدعى "زهرة اللصقة " إمرأة متسلطة ومتجبرة ، تتمتع فى دربنا والحوارى المجاورة بأخلاقها المتدنية ، وأسلوبها الفظ فى الردح والكيد للأخرين ، والذي زاد من حدة تجبرها وسلاطة لسانها ، زواجها من "با المختار" الذي كان لسانها السليط لا تفتر عن التباهي بإنتمائه " للمخزن* " والتفاخر بفحولته ورجولته - رغم قصر قامتة وكرشه البارزة ، وما تروجه النساء من معاناتها معه من إضطراب فى العلاقة الحميمة – التي تجعلها لا تتورع عندما تحضر للتزود بالماء من "السبالة" أو لغسل بعض الملابس ، عن القفز على أدوار"العيالات" المنتظرات في الطابور وتجاوز أدوارهن جميعا ، دون أن تستطيع أي امرأة من نساء الحى أن تواجهها أوتمنعها من التعدي على دورها في السقي ، لأنها كانت ، كما يقال في دارجتنا المغربية :"شاطا ماطا " سوقية التعابير ، تجيد استعمال كل قوامس الشتم والسباب ، وبارعة في اصطناع الخلافات والمشاجرات ، التي تحرص على أن تصل إلى "النتيفي" ، الذي تتقنه ، مع كل من تعترض على "دصارتها" وتعديها على دورها ، بدعوى أنها " مرات لمخزني " .. لقد كانت "زهرة اللصقة " المثال الحي لتعامل الكثير منا مع طوابير الإنتظار ، والذي لا يختلف عن الأكثرية العظمى من مجتمعنا ، وكأنه يمتلك جينات طغيانية تدفع بأفراده ليطغوا ويتجبروا على غيرهم ، ارضاء لنرجسيتهم وشعورهم بالعظمة والقدسية، الأمر الذي غالبا ما يوقعهم في مواقف هزلية سخيفة ، كالموقف الذي عاشته "بوطازوت" مؤخرا ، بسبب الطابو وجر عليها حنق وحقد الناس الأسوياء. Hamidost@hotmail