لطالما تردّدَت على آذاننا وألسِنتنا، قصص الحبّ والعشق والهُيام، فقد تغنّى بها الشعَراء في قصائدهم، وكتبَ عنها الرّوائيّون في رِواياتهم، وحكى عنها المُؤرّخون في كتبهم، وباتت تُصَاغ في قوالب فنية في المسرحيات والأفلام والمسلسلات، وأضْحَت من أشهر القِصَص على امتداد التاريخ على الإطلاق، وظلت الأجيالُ تحكيها جيلا عن جيل. فها هو '' قَيْس'' ينفطر قلبه ألماً وحُزناً على فراق حبيبته ''ليلَى'' بعد أنْ دمّره فراق حبِّها ،وبعدَهُ فراقُ مَوتِها. وها هي ''جُولييت'' تغرِس خِنجراً في قلبها بعد أن صُدمت بانتحار عشيقها ''رُوميو'' أمامها. وقِسْ على ذلك من قصصٍ حكاها لنا التاريخ وسَطرتها لنا الأقلام على مرّ العصور. وأنا أجُول وأقرأ في كُتبِ السّيرة النبويّة الخالدة وأتقلّب بين صفحاتها، ارتأيتُ أن أنقل لكم قصّة حبٍّ قَصّر في حَقّها الفقهاء، وغفل عنها الكتاب، ولم يُعطها التاريخ حقها في الذِّكرِ والشُّهرَة. قصّةُ حبٍّ جمعت بين أشرف خلقِ الله محمّد – الرّحمة المهداة- وأطهر نِساء الأرض أم المؤمنين خديجة .وكان لا بد من إظهار الجانب العاطفي والرومانسي في حياة قدوتنا وأسوتنا رسول الله حتى نهتدي بسيرته العطرة و نعرف كيف كان تعامله مع هذه القيمة الإنسانية الجميلة –الحبّ-. كانت خديجة امْرأة عَفيفة جادّة وشريفة، ذات شرفٍ ونسبٍ، تاجرة ميسورةُ الحال. سَمِعَت بأخلاق محمد . بلغَها أنه صَدوق اللسان، حافظ الأمانة، جميل الأخلاق، فعَرَضَتْ عليه أن يَعمل تاجِراً عِندَها، رفيقاً لأحد تجّارِها اسمه ''مَيْسَرَة ''. فوَافق رسُول الله على طلبها، وخرَج مع ميسرة في رحلةٍ إلى الشّامِ من أجل التجارة. فلمّا عادوا، أخبَرَ ''مَيسَرَة '' سيّدتَهُ خديجة بكل ما رآه عن محمّد من أمانته و سُمُوِّ خُلقه وإخلاصه في عمله. فأُعْجِبتْ خديجة بخُلقهِ وشخصِيّته ومهارتِهِ في التجَارة. فرَغِبَتْ في أنْ يكونَ زوجاً لها، فلم تتردّد في إرسالِ صديقةٍ لها إليه تُدعَى ''نُفيسة '' . فتمعَّنوا معي هذا الحَديث الشّيق الذي دار بين ''نُفيسة '' ومحمد ، تقول ''نفيسة '': فأرسلتني دَسِيساً إلى محمد) أي كلفتني بمهمة ( بعد أن رَجَع من عِيرِها في الشّام فقلتُ : " يا مُحمّد ما يَمْنَعُكَ مِنْ أنْ تتزَوَّج ْ؟ " فقال عليه الصلاة والسلام : "ما بيدِي ما أتزَوَّج بهِ " ، قُلتُ : " فإن كُفِيتَ ذلِك ، ودُعيتَ إلى المَالِ والجَمَالِ والشَّرَفِ والكَفَاءة ألا تُجِيبْ ؟ " ، قال : "فمَنْ هِي َ؟ " ، قلتُ : " خديجَة " ، قالَ : " وكيفَ لِي بذلك ؟ " قالتْ : " قلتُ عَلَيَّ " ، قالَ : " فأنا أفعلُ إذاً '' أحْبَبْتُ أن أنقلَ لكم ممّا جاء في يومِ الخِطبَة، اليوم الذي تقدَّمَ الرّسول لخِطبة خديجة ، حَيثُ ألقَى عمُّهُ '' أبُو طَالِب'' كلِمَتهُ، وبعضٌ ممّا قالهُ : '' إنَّ ابنَ أخِي هَذا مُحمّد بْنُ عَبدِ الله ، لا يُوزَنُ بهِ رَجلٌ إلاَّ رَجَحَ به ؛ شَرَفاً، ونُبْلاً، وفَضْلاً، وعقلاً، وإنْ كان في المَال قِلٌّ فإنَّ المَال ظِلٌ زَائِل، وأمرٌ حَائِل، وعَاريةٌ مُسْترْجعَة، وهو والله بعد هذا له نبأٌ عظيم، وخَطرٌ جليل، وقد خَطبَ إليكم رَغبةً في كرِيمَتكُم ''خديجة ''، وقد بَذلَ لها مِن الصّداق حُكْمكُمْ )أي ما تريدون (. فتزوّجَتهُ وهي أرْمَلة في قرابة الأربَعينَ من عُمرها، وهو ما زال في عِقدِه الثالث. فتأمّلوا جيداً هذا المشهد الجميل، إنه الحُبّ في أجمل معانيه وأروع صُوره، نَعم هو حبٌّ تجاوز هنا كلَّ الفوارِق، فارِق السّن ، وفارِق المُستوى الاجتماعي، والحالة الاجتماعية أيضاً، ولم يُشكِّل أيّاً من هذه الفوارق عائقاً في نُموِّ هذا الحبّ واستمراره. تَذكُرونَ مَعي المَشهد الذي لم يُفارق مُخيِّلتنا جميعاً، والذي أُنزِلتْ فيه كلمة '' اِقْرَأ '' حينما كان رَسول الله يَختلي في غَارِ ''حِرَاء''، فَفزِعَ فَزَعاً شديداً، ورَجَفَ فؤاده، واهتزَّ كَيانُه، فانطلق إلى بَيتِ زوجته خديجة فقال عليه الصلاة والسلام : زَمِّلُوني.. زَمِّلُونِي.. فزَمَّلوهُ حتى ذهبَ عنه الرًّوْعُ، ثمّ أتبَعَ كلامَهُ قائلاً لها : لقد خَشيتُ على نفسي، فرَدّت عليه : '' كلاَّ واللهِ مَا يُخزِيكَ الله أبداً، إنَّكَ لتَصِلُ الرَّحِم، وتَحْمِلُ الكَلّ )العَاجِز(، وتكسب المَعدُوم، وتقري الضَّيف )تُكْرِم(، وتُعينُ على نَوائِبِ الحَقّ ''. فانظروا إلى خديجة وهي تَضربُ لنا بفِعلها هذا أروعَ الأمثال في وُقوفِ الزّوجة إلى جانب زَوجها في أحلك الظّروفِ، وأصْعبِ اللّحظات، وانظروا كيف كانت ثقتها بأخلاقه وجميل أفعاله. فكانت أوّل من آمنت برسالته، وأعانته على إبلاغها، وآزرته في أحرج أوقاته، وَواسته بنفسها ومَالها، فقال فيها –صلى الله عليه وسلم- : '' آمَنَتْ بي حِين كَفَرَ بيَ النَّاسُ، وصَدَّقتْنِي حين كذَّبنِيَ النَّاسُ، وأشرَكتنِي في مَالِها حينَ حَرَمَنِي النَّاسُ، ورَزَقني الله ولدَها وحَرّمَ وَلد غيرِها''. فمِنْ أجلِ نُموِّ هذا الحُبّ كان رسول الله مُخلصاً ووفيّا لها، لم يتزوّج قبْلها ولا عَليْها في حياتها وطولَ مدّةِ زوَاجِهما حتّى مَاتتْ. فلوْلاَ أمْرُ اللهِ له بالزّواج بعد وَفاتها لما تزوَّج أبداً، وكان هذا الأمرُ من أجل مُتطلبات الرّسالة. ولشدَّةِ حُزنِ رَسول الله على وَفاتها، سُمّي ذاك العَامُ بِ '' عَامِ الحُزْن ''.. ورغم فراقها لم تفارق مُخيّلته ذكرياتها، فحبُّهُ لها لم يَمُتْ أبداً، ولم تداريهِ الأيام، ولم تضْمُره ظروف الحياة ومشقاتها، حيث كان يذكرها كثيراً ويثني عليها أمام أصحابه و زوجاته، وكانت زوجته آنذاك، أمّنا عائشة تغِيرُ منها: كانت تقول رضي الله عنها: ما غِرْتُ على نساء النبي إلاَّ علَى خديجة وإنِّي لم أُدْرِكها )أيْ لم ترَها ( قالت: وكان رسول الله إذا ذبَحَ الشَّاة فيقول: أرسِلوا بها إلى أصْدقاءِ خديجة، قَالت: فأغْضَبْتُهُ يوماً، فقلتُ: خَدِيجة!! فقال رسول الله : '' إنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ''. فما أجملها من عبارة وما أروعها من كلمة، فحُبّها كان له رزقاً ونعمة من الله جل جلاله . ومرّة قالت له عائشة أيضاً: أما زِلتَ تذكُرُ خديجة، وقد كانت عَجوزاً، وأبدلكَ اللهُ خيراً منها، فيردّ عليها : ''لا والله ما أبدلني خيراً منها ''. وفي موقف جميل آخر أذكره لكم، وذاك في أعظم يوم، يوم فتح مكة، يُفاجِئ رسول الله أصحابه ويقول : '' انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة '' ..يا سبحان الله، لم ينساها حتى في هذا اليوم الأعظم، فكأنه يُشعرها بأن لها فضلاَ في هذا النّصْر، وفي نجاح هذه الدعوة.. فما هذا الحبّ وما هذا الوفاء وما هذا التفاني في الإخلاص، والله أقف عاجزاً عن الكلام والتعبير أمام جلال مثل هكذا مواقف وجمال حبيبنا محمّد ، فقد رقَّ قلبي وسال دمع عيني على حالنا اليوم، ابتعدنا عن قدوتنا وأسوتنا، ونسينا مثل هذه القيم الإنسانية الجميلة، فباتت القسوة والخيانة والغدر من سِمات هذا العصر للأسف.. إلى كلّ زوج مُقصِّر في حُبّ زوجته، فها هو حبيبنا رسول الله يُرِينا كيف كان تعامله وحُبّه لخديجة رغم ما كان يَحمِل من همِّ الدّعوة وما يُلاقيه من شرٍّ وأذى، كان لا يقصِّرُ في خدمة زوجِه ولا يبْخلُ في التعبيرِ عن حُبّه لهنّ.. وإلى كلّ زوجةٍ مُهملة لحقوق زوجها ، تعلّمي من أمِّنا خديجة كيف كانت مُخلصة ومتفانية في حُبّها لزوجها وكيف ناضلت ووهبت نفسها ومالها فداءً لزوجها. وإلى كلّ مُحبّ ومُحِبة، أخرجوا حبّكم هذا من غيَاهب الظلام، ودَعُوه يرى النّور حتّى يُتوَّجَ بالزواج، واجعلوا لكم رسول الله قُدوة في حبكم وزواجكم ..