ترتبط الحياة السياسية، باعتبارها مجالا لصناعة الممكن، وآلية لخدمة المجالات المتعددة للتنمية على أوسع نطاق، وفي جميع المراحل والأشواط، بدء من التخطيط إلى التنفيذ، ثم المساهمة في صنع مجتمع البدائل الحقيقية، بدرجة وعي النخب التي تعتنقها، بل تعد نموذجا محددا، يختلف حسب الظروف والأمكنة، لدرجة يجعلها تنسجم، انسجاما جدليا، مع ثقافة المجتمع الذي تحيا فيه وتنمو. رغم ارتباط المجتمع، بنيويا ثم وظيفيا، بدرجة وعي أفراده، ارتباط الدال بالمدلول، إلا أنه يعتبر حقلا يمتلك من الخصوصيات ما يجعل فن السياسة، داخل أسواره، يأخذ طابعا قد يغالي في الذاتية وحب الأنا، أحيانا، بل قد تنحاز الممارسة السياسية، في أغلب الأوقات، إلى تكريس روح التعصب، ونشر فوضى الأفكار، فيضيع جوهرها الأساس، وتعم التجاذبات، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار حمى صراع البقاء، فيطغى منطق الربح والخسارة.
لعل روح السياسة الحقيقية تستمد قيمتها وكينونتها من قوة برامجها، كما ترتكز على خطاب عقلاني تفصيلي دائم، يتحرى الصدق في جميع أشواطه، على النقيض من الخطابات المناسباتية، على غرار لغة الحملات الانتخابية الموسمية، المتميزة بطغيان منطق القطبية، التي عادة ما تخاطب العاطفة، فتعزف على أوثار الوعود، وتعمد إلى إذكاء نعرة الانتماء الضيق، في غياب تام لاستحضار قيم المجتمع في شموليته، بعيدا، كل البعد، عن أبجدية صناعة الواقع البديل، إنه خطاب يسيطر فيه الوهم، ويتغدى على أزمة منظومة الأفكار، ويتخذ من اختلاف التوجهات الفكرية العامة ممرا لتشويه المسار المجتمعي الأنسب، ذاك الذي يتطلب تضافر جهود كل مكوناته، قصد بناء ثورة، تفاعلية، حقيقية للبرامج والمشاريع، ويؤسس لمرحلة المصالحة مع الذات أولا، فالآخر، كسبيل أساسي لخدمة التنمية الشمولية كرهان حاسم و مصيري.
على الممارس لفن الممكن، أن يعتمد لغة المكاشفة والوضوح، وأن يركز، في مشواره الطويل، على الالتزام بقراءة نقدية متأنية لماضيه، قصد تقييم ثم تقويم أدائه، وأن يعمد إلى تصويب المسار العام لتوجهه، بناء على رؤيا واضحة لمتطلبات الواقع الذي يعيشه، فالمطلوب تفادي الازدواجية في المواقف والقرارات، ثم تحرير اللغة من النزعة الطوباوية، التي تمجد الذات على حساب الموضوع، حري بالممارس للسياسة، أن يعتمد منهاجا واضحا يمكنه من تحيين برامجه باستمرار، حتى تتمكن من التفاعل مع متطلبات البيئة، فتستجيب للحاجيات الأساسية، فمن شأن السقوط في تناقضات على مستوى اللغة المتداولة والخطاب المعتمد، أن يساهم، وافرا، في إنتاج ممارسة سياسية بدائية وهجينة، لا تتصف بالروح الرياضية، فلا تعترف بالفشل، ولا تميز بين التعثرات والإخفاقات، وبين الأخطاء القاتلة، التي تعتبر مكلفة و باهظة الثمن، في عرف السياسيين الحقيقيين، بل قد يصفها البعض بالانتحار السياسي، على غرار ما حدث للبعض، ممن يدعون الحنكة والتجربة، في الاستحقاق الأخير، إذ سقطوا في فخ الغفلة، وشباك الثقة الزائدة، إنها ممارسة سياسوية رديئة، تحاول، جاهدة، تجاهل جوهر و موطن الخلل الحقيقي، فتعمد لأسلوب الإلهاء وتوجيه الأنظار، بعيدا عن الصواب والهم الحقيقي، لهذه الأسباب لن تتمكن من تجاوز نقائصها و قصورها مهما حرصت.
بدون شك، فسيادة منطق البرامج والمشاريع، الذي بإمكانه الإسهام في الانخراط الجماعي، بمعزل عن النزعة النفعية، بعيدا عن معادلة الربح والخسران، وحضور الخطاب السياسي الجيد، الذي يعد في حاجة دائمة إلى تعديل، يجعلان من السياسي الحقيقي، ذاك الكاريزمي، الذي يتفادى، في جل الأوقات، السقوط في تناقضات بين اللغة المتداولة والممارسة الميدانية، لكن انعدام الانسجام بين ثنائية الخطاب والبرامج، يجعل من مهمته من أصعب المهام على الإطلاق، إذ أن صناعة مجتمع بدون أزمات، تظل الغاية الكبرى والهدف الأسمى، بل هو قنطرة للعبور نحو تنمية فعلية، بعيدا عن المزايدات.
إن تضارب الشأن المجتمعي وتوجهات السياسيين، وتباعد الهوة بينهما، وعدم انسجام إيقاعهما، والخروج عن المألوف، كفيل بخلق الفئوية الناتجة عن صراع المصالح وتنافرها، مما يساهم، بالقسط الوافر، في بزوغ الفكر النخبوي، ويقطع الطريق أمام متطلبات الأفراد واحتياجاتهم الأساس، بسبب خدمته لأجندة الفئات، مما يضرب وحدة المجتمع وكينونته في الصميم، فتضيع آمال الإصلاح، ويعم تضارب الانتماءات، فيطفو صراع المواقع، ويظل الخطاب السياسي الراهن، فاقدا لمصداقيته بسبب حالات التخبط التي يعيشها، واتصافه بسمة النخبوية المسيطرة على مواقع القرارات، وقطعه الطريق أمام كل محاولات التغيير.