لحد الساعة لا يزال اختفاء الكاتب والصحفي السعودي جمال خاشقجي بعد دخوله قنصلية بلاده في اسطنبول لغزا مُحيّرا، فأزيد من أربعين كاميرا مثبتة على عدة نقاط وزوايا بدقة في مبنى القنصلية لم تُفد بشيء إلى حد الساعة. لكن في مقابل تشبث الجانب السعودي الرسمي برواية أن الرجل دخل وخرج في غضون ساعة من الزمن، تُؤكد غالب المؤشرات لحدود الآن أن الرجل الذي انتقد سياسات الأمير محمد بن سلمان، دخل مقر القنصلية لقضاء غرض إداري، لكنه لم يخرج بشكل طبيعي. رواية محدودة الانتشار تقول أن خاشقجي استُدرج إلى القنصلية، فيما تقول رواية أخرى بوجود طرف ثالث في الموضوع، وإذا ثبتت هذه الرواية فمن يا ثرى له الجرأة على ارتكاب فعل كهذا؟ ربما إسرائيل على أكثر تقدير، وان صح هذا الطرح، فما هو هدفها من ذلك؟.. خلق اضطرابات في العلاقات السعودية التركية مثلا؟ غير أن نقطة ضعف هذه الفرضية تكمن في أن أحداث قصة الاختفاء كما تشير جل المؤشرات الحالية وقعت داخل التراب السعودي (القنصلية) وليس في مكان آخر، ولكن على الرغم من ذلك تبقى جميع الاحتمالات واردة بما فيها احتمال الضلوع الإسرائيلي. خطيبة جمال خاشقجي، خديجة جينكيز، تقول أنها رافقته يوم الحادث وبقيت تنتظره خارج القنصلية في وقت يتشبث مسؤولوا القنصلية بروايتهم الرسمية، أي أنه خرج بعد ساعة على دخوله. الجانب التركي ملزم قانونيا بإظهار الحقيقة بجميع الوسائل المعمول بها، وهو لحد الآن يتعامل بدبلوماسية ولم ينجر إلى تسييس الموضوع، مؤكدا، من خلال خطابات المسؤولين الأتراك، على الالتزام باتخاذ مواقف قانونية على ضوء نتائج التحقيق. مازالت في الموضوع حلقة مفقودة، ويتعلق الأمر بتسجيلات الكاميرات، حيث أن كثير من المهتمين بالموضوع طرحوا السؤال المُتعلق بدافع السعودية إلى التحفظ على تسجيلات فيديو خروج خاشقجي من القنصلية دون أن يتلقوا جوابا شافيا؛ فجواب السفير السعودي في تركيا، السيد محمد العتيبي، بأن الكاميرات لم تسجل أي لقطة لدخول أو خروج الصحفي المختفي، يقود إلى طرح سؤال تقني حول من عطل عشرات الكاميرات؟ هي بدون جدال ليست من صُنع صيني رديء - مع احترامنا للصناعة الصينية – على غرار تلك المنتشرة في العديد من المحال التجارية، والتي في الغالب رغم رخصها تفي بالغرض، فما بالك بكاميرات مراقبة أمنية في مبنى حساس تابع لبلد عُرف ببذخه السخي على مؤسساته السيادية من سيارات الخدمة الفارهة للمسؤولين إلى الأثاث الإداري الرفيع، مرورا طبعا بوسائل الحماية الأمنية التقنية والفنية، والتي أبدا لن تكون إلا على رأس أولويات سلطات الرياض، فنحن نتحدث عن بلد بدل مجهودات كبيرة منذ 2011 لتعزيز أمن مؤسساته السيادية الداخلية والخارجية الحساسة، بعد دخوله في عدة خلافات ونزاعات، تجاوزت تلك الخلافات الروتينية مع الأنظمة، إلى عداوات مع فئات عريضة من الشعوب العربية، بسبب دخوله في صراعات على عدة جبهات، كالمشاركة غير المباشرة في التآمر على سورية، والعدوان على اليمن، وحصار قطر، والعداء مع الإخوان المسلمين، وتعميق الصراع السياسي مع إيران، إضافة إلى القسوة المُفرطة التي أظهرتها سلطات المملكة في تعاملها مع المعارضين السعوديين والعديد من الرموز الشيعية في البلاد، وهي عناصر، لدا أغلبها حضور في بلد إسلامي كبير كتركيا حاضن لجاليات ومغتربين عرب ولمختلف الحساسيات العربية، وما يمثله ذلك في نظر الأجهزة الأمنية والمخابراتية السعودية، من خطر مفترض، بما يخلفه من هواجس أمنية كبيرة، كالخوف من تسلل محتمل في أي لحظة لأفراد للقنصلية أو على الأقل من وقفات مناوئة يمكن للمبنى أن يشهدها، ومن تم فلا مجال للحديث عن عطل فني أصاب نظام المراقبة أو أصاب عشرات الكاميرات جملة واحدة في موقع بهذه الحساسية. فكيف إذن، لمؤسسة تمثل السيادة السعودية وسياستها الداخلية والخارجية، عملها لا يقتصر على إجراء المعاملات والمراجعات الروتينية للمواطنين المغتربين والأجانب، بل يتجاوزه إلى جمع المعلومات وصياغة التقارير الأمنية بالغة السرية، وبكل ما تحمله هذه المؤسسة من حساسية، ورغم ذلك يقع مسؤولوها في خطأ أمني رهيب، يُسيء لكفاءة نظام المراقبة الداخلي، ما يستوجب في الواقع، على الأقل إقالة القنصل ومساءلة السفير من طرف سلطات بلاده، واتخاذ إجراءات قانونية في حق مسؤولي الأمن الخاص والشركة القائمة على توفير المراقبة الرقمية، والتي بكل تأكيد، لن تكون إلا شركة ذات سمعة عالمية ومهنية عالية. واقعة الاختفاء حدثت يوم الثلاثاء 2 أكتوبر، وهو اليوم الذي صادف وصول 15 مسؤولا أمنيا سعوديا إلى القنصلية تزامنا مع تواجد جمال خاشقجي بها.. من جانبها أفادت صحيفة "الغارديان" أن مسؤولين أتراك حصلوا على أشرطة تُظهر عملية نقل صناديق من المبنى إلى سيارة سوداء كبيرة كانت متوقفة قرب القنصلية. وحسب تقارير إعلامية فان خاشقجي كان قد راجع سلطات القنصلية قبل أسبوع من اختفائه، غير أنهم حددوا له موعد آخر، وهو ما حصل في اليوم الذي اختفى فيه. وفي هذا السياق أكدت وزارة الداخلية التركية أنها تملك معلومات بوجود خاشقجي داخل القنصلية وأنه لم يُغادرها. إفادة السلطات التركية تتناقض مع الرواية السعودية، فهل يمكن للجانب التركي الرسمي إذن أن يكون قد كذب على السعودية، وبذلك يكون قد ورطها وتورط معها في قضية هزت الرأي العام العربي والدولي وحركت صناع السياسات العالمية، بما لها من تبعات خطيرة، ليس فقط على العلاقة مع البلد الذي يضخ مليارات الدولارات كاستثمارات في السوق التركية، وإنما تهدد بعواقب وخيمة على ارتباطات المملكة دوليا، وبما يتيحه ذلك، أيضا، من حجة لاستهداف مباشر لشخص خليفة الملك، الذي قد يُتابع أمام المحكمة الجنائية الدولية باعتباره المسؤول الأول عن السياسات الخارجية لبلده، في وقت تمر فيه العلاقات بين أنقرةوالرياض في أحسن أوضاعها. أيضا ثمة سؤال موضوعي يتعلق بالأسباب التي يُمكن لها أن تدفع بالمملكة إلى التضحية بأحد رجالاتها ممن خدموا بلادهم، لمجرد ملاحظات وجهها لسياسات السلطة الحاكمة، مهما كانت قاسية، فهي في المقابل تبدو بسيطة مقارنة بانتقادات المعارضين السعوديين في المهجر، إلا أن من يعتقل أبناء عمومته ومقربيه في واقعة غير مسبوقة في السعودية الحديثة، ليتم ابتزازهم علنا، ثم من تم يعتقل شيوخا وعلماء جملة واحدة غير عابئ بمشاعر الملايين من مجتمع مرتبط وثيقا بالعقيدة، على الرغم من أن الكثير من هؤلاء الدعاة خدموا سياسات النظام خاصة ما يتعلق بالدعم المعنوي لغزو اليمن، والتجرؤ على احتجاز رئيس حكومة بلد ذو سيادة واستقلال، وهي الادعاءات التي أكدت صحتها الإعلامية بولا يعقوبيان خلال لقاء مع تلفزيون "الجديد" قبل أيام. فهل من يقوم بهذه الأفعال وبهذه الجرأة غير المسبوقة، سيتردد لحظة في إخفاء شخص له هالته الإعلامية وتأثيره الدولي على صورة المملكة؟ خاصة في مرحلة حساسة تشهد تحولا غير عادي يقوده الأمير الشاب بكل الوسائل ومهما كلف، ذلك، الثمن. فمهما كانت مكانة الصحفي المختفي، فهو في النهاية، في أجندات الأمير، كالعين التي لا تعلو، ولن يُسمح لها بأن تعلو على حاجب ولي الأمر إن هي فكرت في ذلك. إن الحديث عن عدم قدرة كاميرات التسجيل وأجهزة مراقبة، في مبنى حساس كالقنصلية، مؤمنة من طرف شركة مختصة لا يمكن لعاقل أن يقبل به. فالمؤكد أن خاشقجي لم يخرج على قدميه من أحد البابين الوحيدين للقنصلية. أما السؤال الذي يطرحه غالب المهتمين، بشأن ما إن كان الرجل ما يزال حيا أم أنه قتل؟ فهذا السؤال لن تجيب عنه سوى الأبحاث الأمنية. ولحد الآن سُمح لفريق أمني قضائي تركي بدخول القنصلية في إطار تفاهم بين السعودية وتركيا. غير أن طبيعة هذه المهمة بحد ذاتها لا تعطي الكثير من الأمل لإظهار الحقيقة، فالتفتيش لأجل التفتيش ليس هو الغاية بحد ذاته، ذلك أن التفتيش، في أدبيات شرطة التحري، يختلف كليا عن التحقيق المعمق الذي يقوم على التحري الدقيق ويشترط الاستقلالية التامة والمطلقة عن أي سلطة إدارية أو سياسية باستثناء سلطة القضاء الواقف (النيابة العامة). فأي نوع من التفتيش الذي سمحت به السعودية؟ هل الأمر يتوقف عند معاينة نظرية أم إخضاع جميع مرافق القنصلية لتحريات أمنية دقيقة تقوم بها الشرطة القضائية والفرق العلمية المختصة مثلما هو معمول به في العادة عندما يتعلق الأمر بشبهات جرائم القتل؟ فعندما تتحدث التقارير عن فرقة أمنية مختصة جاءت من خارج تركيا لتنفيذ الجريمة بطريقة "وحدة الاغتيالات" التابعة للموساد الإسرائيلي، فبالتالي فان هامش ترك الفاعل(ين) المحتمل(ين) دليلا ملموس يمكن معاينته بالعين المجردة، يبقى مستبعدا، وهنا تبقى التحريات الأمنية والمخبرية تحت إشراف الشرطة القضائية والعلمية بما تتيحه من جمع لمعطيات وحجز ما يتعين حجزه حتى ولو تعلق الأمر بشعرة من رأس وما إلى ذلك وافتحاص الحمض النووي وحده الكفيل بحل هذا اللغز.. في العام 1965 حدثت واقعة اختطاف هزت الرأي العام، وتتعلق باختفاء المعارض المغربي اليساري المهدي بن بركة، في باريس بالتعاون مع المخابرات الفرنسية، ليتم قتله بطريقة خيالية في أحد مقرات المخابرات بالمغرب.. لم يمر الكثير من الوقت حتى علم الجميع أن المغرب وفرنسا متورطان في القضية، على الرغم من أنه لم يكن في ذلك الوقت لا كاميرات مطورة منتشرة في الشوارع ولا شرطة علمية ممكنة بأدوات متطورة ولا إعلام قوي ومؤثر عابر للقارات بالشكل الذي عليه اليوم، ولا حتى أجهزة أيفون يمكن الاعتماد على ما تخزنه من بيانات هائلة ترصد جميع تحركات صاحبها.. الرد السعودي بأن الرجل غادر القنصلية، مع عدم إنكار دخولها، يجعلنا نطرح من هذا الجانب سؤالا وهو أين اختفى خاشقجي بعد خروجه المزعوم من السفارة، وكيف لم تلتقطه الكاميرات الأمنية في شوارع اسطنبول إذا كان قد غادر بالفعل القنصلية؟ ومن نكذب ومن نصدق، هل الكاميرات السعودية التي لم تصور الرجل عند دخوله وخروجه؟ أم الكاميرات التركية التي صورت الرجل قبل دخوله، لكنها لم تلتقط حركاته عند خروجه المزعوم؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن كاميرات الطرفين ذات جودة عالية ومؤمّنة جيدا وغير قابلة للعطل المفاجئ.