بلا أدنى شك، الحقيقة كمصطلح تشكل مثلا أعلى وغاية أسمى بالنسبة للإنسانية في مختلف الحقب الزمانية والمواقع الجغرافية. ونظرا لهذه المكانة المتميزة شاع استعمالها لتشمل كل مجالات الفصل في صدقية الأحداث والظواهر من عدمها. ونظرا للمبالغة في استعمال هذا المصطلح في كلام الناس، أي تعدد مجالات البحث عنها على المستوى العامي وارتباطها بالأحداث العادية، وقلة تداولها على المستوى الفكري، أصبحت مفهوما غامضا وملتبسا، ليبقى نظريا مجالها الرائد، القادر على الحفاظ على قيمتها المعرفية، مرتبطا بالتطور العلمي والتكنولوجي. وعليه، ونحن نعيش محنة انتشار وباء الكورونا المستجد، أبرزت الأحداث المتتالية والمتراكمة حاجة شعوب بلدان الجنوب، في إطار استعدادها لما بعد المحنة، إلى حوار تشاركي مستمر يتناول الإشكالات والقضايا التي تفضي إلى خلاصات تمكن الأفراد والجماعات من التمييز بين الحقيقة والرأي والوهم. وبما أن المنهج يعد ركن أساسي من أركان نجاح المشاريع في الوصول إلى تحقيق أهدافها المسطرة، أعتقد أن الإجماع الوطني الذي حققه المغرب في تعاطيه مع هذه الجائحة، تحت قيادة السلطة الملكية، يجعل منه فضاء نموذجيا لتقوية التفاعل الفكري، الموضح لمفهوم "الحقيقة"، وتحويله إلى نواة صلبة موجهة للتفاعل المجتمعي في تعاطيه مستقبلا مع كل مشاريع البحث عن التغيير وقيادة أوراشه وأنشطته.
إن الجهد الذي بذلته الدولة المغربية في محاربة انتشار هذا الوباء الفتاك، والذي لقي استحسانا دوليا، وما حققه إلى اليوم من نتائج تستحق التقدير، كان بالنسبة لي حافزا لتحويل هذا المقال إلى دعوة إلى تظافر الجهود، بدون أي قيد أو شرط، ليتحول المجتمع المغربي، في تفاعله بحثا عن الحقائق النافعة، إلى قوة دائمة النشاط لا يفوح منها إلا المصطلحات ذات النكهة والرائحة الزكية، المحفزة بعطرها للعمل والكدح في السراء والضراء، حاضرا ومستقبلا. بالطبع دعوتي ليست نابعة من فراغ، بل تجد لها مبررا نظريا في كلام المفكر ميشيل فوكو، وحقلا تجريبيا فيما يعرفه المغرب من تفاعلات وطنية. الحقيقة، بالنسبة لهذا الفيلسوف الكبير، لا توجد خارج السلطة ولا تخلو من سلطة، أي أنها ترتبط بالسلطة التي أنتجتها.
الحقيقة إذن، كما يقول فوكو، هي نتاج للمجتمع ونظامه المؤسسي، والأعمال المرتبطة بها لا يمكن فصلها عن المؤسسات السياسية والتربوية والاقتصادية والعسكرية. إن طبيعة الحقائق وتطورها تشكل إلى حد بعيد معيارا لتقييم المسار التطوري الذي تقوده الدولة. لذا، فالطموح المنتظر، الذي يستحقه الوطن، لا يمكن أن يكون غير تطوير الثقافة المغربية بالشكل الذي يجعل من إنتاج الحقائق ونشرها بين الناس، تبعد الأفراد والجماعات عن الوهم، وتجعلهم يلمسون الوقع القوي لتكامل الحقائق العقلية والحقائق التجريبية في أفق تأهيل الواقع، والسعي لتحقيق تطابقه مع الفكر ومسارات تطور المعارف العلمية المختلفة والمتنوعة.