في ذلك الزمن الجميل الذي مضى مخلفا وراءه كما هائلا من التحسر على رحيله، علمنا الأساتذة الأجلاء والمناضلون الشرفاء إلى جانب التحلي بروح المواطنة الصادقة والخصال الحميدة وقيم الصدق والوفاء والأخلاق الفاضلة، أن الاجتهاد ميزة إنسانية رفيعة المستوى، ولا يمكنه أن يكون إلا في الاتجاه الصحيح صوب كل ما هو إيجابي ويعود بالنفع على صاحبه والمجتمع، باعتباره من أهم الوسائل التي تساعد في تحقيق النتائج المرضية واجتراح الحلول الملائمة لأبرز الإشكالات المطروحة. فالاجتهاد لغة: هو بذل أقصى جهد ممكن وتفريغ أكبر قدر من الطاقة في إنجاز مهمة ما على الوجه المطلوب. واصطلاحا له عدة تعاريف، منها مثلا العمل الدؤوب والجاد، على أن تتوافر الشروط الموضوعية لدى الشخص المعني بالاجتهاد، الذي يتعين عليه أن يكون مؤهلا للقيام بواجباته وقادرا على البحث والاستدلال، ومن ثم استنباط الأحكام الشرعية بالاستناد إلى الحجج والبراهين. ويمتد الاجتهاد إلى المثابرة في الدراسة والعمل في سبيل تحقيق أعلى المعدلات والنجاح أو بلوغ الغايات المرجوة والمرسومة سلفا بدقة. بيد أنه في زمننا الراهن اختلطت الأمور وتغيرت المفاهيم، إذ صار اليوم ما كنا نعتقده بالأمس القريب اجتهادا، مرادفا للتخبط والارتجال والعشوائية وكل ما يقود إلى الفشل الذريع والخسران المبين. وهو ما يؤكده لنا رئيس الحكومة سعد الدين العثماني وبعض الأعضاء من فريقه المتنافر وغير المنسجم في التعاطي مع عديد القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وخاصة في ظل الأزمة الصحية الحالية التي كشفت عن ضعفهم وزادتهم تشرذما. فالحديث عن الاجتهاد أملاه وجود بلادنا على فوهة بركان ملتهب، وفي وقت هي أحوج ما تكون إلى تضامن جميع أبنائها من المثابرين المخلصين وذوي الكفاءة الحقيقية والحس الوطني الصادق، لاسيما في هذه الظروف الصعبة التي تتزايد فيها الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا المستجد أو ما يسمى "كوفيد-19" وارتفاع الحالات الحرجة التي تخضع للتنفس الاصطناعي وحالات الوفيات. فضلا عما أثاره بلاغ وزارة التربية الوطنية بخصوص الدخول المدرسي الجديد للسنة الدراسية 2020/2021، الذي اختير له من الشعارات البراقة شعار: "من أجل مدرسة متجددة ومنصفة ومواطنة"، من ردود أفعال غاضبة على صفحات التواصل الاجتماعي واستياء عارم في أوساط الأسر المغربية. إذ لو أن وزير التربية الوطنية والتكوين المهني وتكوين الأطر والبحث العلمي، الناطق الرسمي باسم الحكومة سعيد أمزازي وقف عند حدود ما وضعته وزارته من فرضيات تهم تطور الوضعية الوبائية، وتتمثل في: فرضية أولى تتعلق بتحسن الوضعية الوبائية وعودة الحياة إلى طبيعتها، يتم فيها اعتماد التعليم الحضوري، والثانية ترتبط بوضعية وبائية تتحسن ولكنها تستدعي الالتزام بالتدابير الوقائية، ويلجأ خلالها إلى تطبيق التعليم بالتناوب بين تعليم حضوري وتعلم ذاتي، فيما الفرضية الثالثة والأخيرة تتعلق بتفاقم الحالة الوبائية، وهي التي تستوجب الاقتصار على التعليم عن بعد، لقلنا سرا وعلانية آمين، ورفعنا أكف الضراعة إلى العلي القدير بأن يرفع عنا هذا الوباء اللعين في أقرب الآجال. لكن أن يتخذ قرارات بشكل انفرادي، تقضي بتأجيل الامتحان الجهوي إلى وقت لاحق غير مبال بآثاره النفسية على تلاميذ السنة الأولى بكالوريا خاصة منهم المستعدين جيدا خلال العطلة الصيفية، والدفع بالأسر إلى الاختيار بين التعليم الحضوري والتعلم الذاتي، دون إشراك البرلمان أو فتح نقاش جاد ومسؤول مع ممثلي النقابات وجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ. حيث دعت وزارته الأسر الراغبة في استفادة بناتها وأبنائها من تعليم حضوري بالمؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية ومدارس البعثات الأجنبية خلال الموسم الدراسي المقبل الذي تقررت انطلاقته يوم الاثنين 7 شتنبر 2020 إلى التعبير الصريح عن اختيارها عبر تعبئة استمارة خاصة لهذا الغرض ابتداء من فاتح شتنبر 2020، فتلكم قمة الاستهتار والارتجال والارتباك... إذ متى كان مسموحا للأسر المغربية بالتدخل في السياسات التعليمية والحسم في مستقبل أبنائها؟ وهل نسي ال"سعيد" أمزازي أنه يتقاضى أجرا شهريا ضخما وتعويضات مغرية من أموال الشعب، مقابل القيام بتدبير الشأن العام التعليمي؟ أليس من العبث وانعدام الشهامة أن يتنصل من مسؤولياته في هذه الفترة العصيبة؟ أبهكذا قرارات جزافية يمكن خلق مدرسة متجددة ومنصفة ومواطنة؟ وأين نحن من تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب؟ ثم ماذا هو فاعل إذا ما اتفقت جل الأسر المغربية على اختيار "التعليم الحضوريّ" كصيغة تربوية وحيدة؟ إن المغرب يخوض معركة ضارية ضد فيروس "كوفيد -19"، الذي عرى بؤس وضعف الحكومة في مواجهته بما يلزم من حزم ومسؤولية، حيث اتضح للجميع بجلاء استحالة دحره عبر فسح المجال أمام الأسر في الاختيار بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد أو تأجيل الامتحان الجهوي أو تأخير الدخول المدرسي أو اعتماد سنة بيضاء... وإنما يقتضي تحقيق النصر حشد الطاقات وشحذ الهمم في أجواء من التفاهم والتلاحم والتضامن الوطني الكثيف، وتوحيد الرؤية باعتماد صيغة تربوية موحدة وتهييء الظروف المواتية لإنجاحها، بعيدا عن المناكفات والمزايدات السياسوية وتصفية الحسابات الحزبية الضيقة...