في كل مناسبة تستدعي ظهورا للقوى الحية في البلاد، وعند أية محاولة للتعبير عن الموقف، سواء بتنسيق مع الفرقاء، أو بشكل منفرد، تطفو على السطح تلك الاتهامات أو اللازمات التقليدية المكرورة حد الشرخ الموجهة لبعض الفصائل على وجه الخصوص: استعراض القوة، تضخيم الذات، إقصاء أو استئصال الغير، عدم الاعتراف بالآخر... في حال دعوة القوى الحية إلى التنسيق والمشاركة في فعل نضالي موحد، أو المبادرة الفردية إليه، وإضعاف الصف، والعمالة المأجورة للنظام، في حال عدم التوافق في النشاط المشترك، والانعزال إلى نشاط فردي.. هذا من جانب "الفرقاء الأفقيين"، أما من جانب "الوصي العمودي"، فإنه يضيف التهم الكلاسيكية الجاهزة: الخيانة والانخراط في تنفيذ أجندات خارجية، بالنسبة للقيادة، والتحوير والاستعمال والاغتنام والاختطاف، بالنسبة للقيادة والقاعدة على حد سواء.. وإذا كان الرد على اتهامات النظام يعتبر مضيعة للوقت، ما دام هو المناهَض، وبالتالي فهو لا يسعى إلا إلى التشتيت من أجل الحفاظ على سلطته المشبوهة، فإن اتهامات "أقران النضال" تثير الريبة في كنهها، ومبعثها، ومبتغاها، لأنه حتى ولو كان الاختراق والركوب... واردا، وهذا من طرف النظام وأيضا من طرف المرتزقة والمتسلقين، فإن الحل ليس هو شل الحركة بمثل هذا الإحباط والتثبيط، بل الأولى هو حراسة أية ممارسة نضالية، وتنقيحها، وتصويب مسارها ومسيرها، وتصفية عوالقها، وغربلة شوائبها... نعم، نعلم عمل "الغيرة الفكرية"، ونتفهم وأثرها بين الفرقاء، خاصة عندما يغذيها العمى الإيديولوجي لتصبح أخطر على "الزميل" من النظام المستبد بصفته العدو المشترك.. العمى الذي لا يرى في "المنافس" إلا الأحادية والترفع وما ينتج عن ذلك من التهم السابقة.. لكن المتهِم يُبهَت عندما نجد أن ذلك "المتهَم" لا يدعي أنه فوق النقد.. بل يظل يردد أن كل فكر قابل للتمحيص والتقييم والتصويب، ولكن فقط يطالب باعتماد علم ومنهج لإظهار العيوب والمثالب،، ويطالب الغيورين في التيارات الفكرية المنافسة بطرح بديل عند عدم إمكانية الترميم.. أما بالنسبة ل"العدميين" بالمفهوم الدقيق للكلمة، والذين لا يعجبهم العجب، فإنه لا يُقبل منهم عدم قبول المعروض المتاح، وفي نفس الوقت عدم الجد في إيجاد بديل، لأن كثرة وتنوع التيارات الفكرية المتوافرة أكبر وأكثر وأوسع من ألا يجد راغب ما يشمله.. فإذا ما تحقق هذا الاستثناء لشخص ما، فإن عبقريته التي لم يقنعها العرض الموجود كفيلة بأن توجِد له إطارا يضمه ويضم من يكون قد ضاق بهم الواقع ذرعا مثله.. من كان صادق النية والمبعث يعلم أن الانتخابات على الأبواب، والناس قسمان بين مشارك ومقاطع، والرهان قائم على سحب مشروعية المشاركة السياسية من رصيد النظام، عبر تحييد الفضلاء الذين لا يدعوهم لها سوى سوء التقدير، وعليه يجب على الشرفاء التكاتف والتعاضد رغم اختلاف المشارب، ولو مع تعميق النقاش إن وجب، ما دامت مناقشة الأفكار والمبادئ ليست لها حدود، فالحكمة ضالة الإنسان أنى وجدها، وما الحضارة الإنسانية إلا تراكم كمي لتجارب الناس عبر الأمكنة والأزمنة.. لذا فإن الفرقاء الصادقين في حاجة إلى عقد نقاشات مفتوحة الأفق، صافية الفكر، تمكن من تحديد منطلقات العمل كما يطمحون إليه، وهذا دون الغوص في مناقشة المواقف الجزئية التفصيلية التي لا تفي بغرض ولا تؤدي لمأمول، وإنما فقط تُدخل أصحابها في متاهات لا خرائط لديهم للخروج منها، وتجعلهم يتيهون في غياباتها دون طائل، وتساهم في زيادة تشويش الصورة أكثر مما هي مشوشة أصلا، وتحيل النقاش تيها في التجزيء والتفصيل، لأن الشيطان يكمن في الجزئيات والتفاصيل كما يقال. وحتى إذا لم يكمن الشيطان فيها، فهي تتجزأ وتتفرع وتُطيل الموضوع حتى يطيش المرء في ثناياها ويضل في انحرافاتها!!!.. كما ينبغي الترفع عن الارتهان للسلوكات الفردية المعزولة التي تبقى معلقة بكثير من الحيثيات والعوالق(إلا ما شكّل منها قرائن متكررة حد الترسيم، تعضد موقفا مبدئيا).. يجب إذن الوقوف عند العناوين الكبرى والأفكار العامة لمَواطن الاختلاف التي يجسدها التصنيفُ داخل معسكرات كبار المدارس والمذاهب والإيديولوجيات والنظريات الاجتماعية والسياسية،، والاكتفاء بالبحث عن القواسم الكبرى في الغايات والمرامي، والتعرض للكليات فقط، لأن الاختلاف في الفرعيات وارد.. فإذا لم يلتزم فصيل بهذا المنهج، فإنه لا يجني على نفسه فحسب، بل على الشعب كله..
لأنه لا سبيل غير هذا يمكن به مجابهة نظام متسلط متجبر متمترس خلف ترسانة متراكمة تاريخيا من الحواجز والواقيات والحاميات المادية والبشرية والمعنوية واللوجستية والقانونية والإعلامية...