كما مر في المقال الماضي، بالنسبة للمؤمنين بأن الخلل إنما هو كامن في طبيعة النظام ومتجذر في بنيته الاستبدادية، والذي لا تشكل هذه "اللعبة" "الديمقراطية" إلا مجسة إضافية لأذرعه الأخطبوطية، وواجهة مزيَّنة/مزِّينة للتمويه والشرعنة لدى الداخل والخارج، بالنسبة لهؤلاء فإن الحل هو المقاطعة.. غير أن المشاركين يحتجون، إضافة إلى غياب البديل، بضرورة استعمال سنّة التدافع من أجل التغيير.. والحق أن الفعل، أو "التدافع"، للتغيير واجب، ولكن الاختلاف قائم حول مقاربة الوسيلة.. وهذا منشأ التناظر بين الحلول المتضادة المقترحة، أي المفاضلة بين نهج معارضة "راديكالية" تدعو إلى المقاطعة، ومنهج موالاة/"معارضة مؤسساتية"، تدعو إلى المشاركة، لتزكي وتشرعن "المؤسسات" القائمة بواسطة "اللعبة الانتخابية".. وقد سبق لي أن كتبت عن المقاطعة في أكثر من مناسبة(تقريبا في كل "محطة انتخابية" في هذه العشرية الأخيرة، وأحيانا في غير "الموسم"..)، لعل أهم مكتوب لي فيها كان مقالا مطولا بعنوان "المشاركة بين ظرفية الاستجداء واستراتيجية المقاطعة"، هذا رابطه: https://www.akhbarona.com/writers/81450.html، كنت قد فصّلت فيه العديد من متعلقات ودواعي وبواعث المقاطعة.. المشكل إذن في الموقف المبدئي من اللعبة.. فإن أجزناه، لا يكون الاختلاف إلا في جزئيات تقنية تنفيذية، قد يكون تعدد الرؤى فيها مقبولا.. وإن لم نجزه(كما هو حال المعارضين)، فإن مجرد الرضى بالدخول في نقاشات هامشية لتفاصيل العمل التنفيذي تعتبر مضيعة للوقت والجهد، اللهم ما كان منها قصد إقامة الحجة على من لا بصر له ولا بصيرة.. عمليا، المشاركة والعمل من خلال المؤسسات مستمرة منذ "تأسيس هذه الدولة الحديثة"، على الأقل من الناحية الرسمية.. والمفترض أن حالة بلد تعتبر انعكاسا مباشرا ونتيجة حتمية لعمل مؤسساتها.. والواقع أن لا أحد يدافع عن هذه الحال، ولا يمتلك، حتى من كبار المسؤولين.. غير أن بعض المشاركين يخلطون الغايات بالوسائل، فيحتفون بالنتائج، عند الحصول على بعض المقاعد، على أنها "إنجازات" ومؤشرات صواب الاختيار، مع أن ذلك "الفوز" -مع التسليم به- غاية ما يمكن أن يمثل أنه "وسائل معطِّلة" أو مؤجِّلة للإصلاح الحقيقي المنشود.. لذا يجب عليهم تحديد الهدف من المشاركة السياسية، هل هو "الفوز" في حد ذاته،، أو الإصلاح؟.. وهذا السؤال يصبح أكثر إلحاحا ومشروعية عندما يتعلق الأمر بالقواعد، حيث أنه إذا كان الهدف هو الفوز، فقد تحقق لأشخاص بعينهم.. وهم من يحق لهم الحبور والتبختر بما سيستفيدون من الأجر والتقاعد والتعويضات وكل تلك الامتيازات التابعة، أما "كاري حنكو" فلا يصيبه منها شيء، عدا وزر المساندة إن أسيء استعمال المنصب،، وهو يساء بالقوة وبالفعل.. وإذا كان الهدف هو الإصلاح، فيجب عليهم بيان ما مضى منه، وما سيأتي، ومن يتحمل وزر الوضع الكارثي العام الذي نعيشه، سواء العام أو القطاعي.. أما إذا كانت مهمة المشاركة لا تتعدى أداء دور جسور الطوارئ وأرانب السباق، وتهييء الغلة لربها، فليعلموا أن يوم الحساب لا ريب فيه في الدارين، وإن كان، في هذه الدار، يمكن أن تستلذ "بعض الأحزاب الوازنة" الوضع وتستطيبه، وتنطلي عليها الحيل، خاصة إذا كانت هناك حاجة للنظام لولايات أخرى "يهديها" لها قصد تمرير ما تبقى من أجندات "الإصلاح" المفروضة من المؤسسات المحلية والدولية من جهة، ولاستنزاف أرصدتها ومدخراتها من أجل تدميرها نهائيا من جهة أخرى.. وهو(النظام) الذي لن يعجزه إيجاد التوليفة الإجرائية المناسبة للجمع بين النقيضين(إبقاء/تدمير حزب).. إن المشاركين المقتنعين بجدوى المشاركة، بما يفيد الاستقلالية في اتخاذ القرار وأجرأته بحرية وتلقائية، ملزمون بتحمل أوزار الموقف كله، بدء من التقرير وصولا إلى التنفيذ، وما انبنى على ذلك من نقد وانتقاد لكل الممارسات، وفي كل المستويات.. أما إذا كانوا مكرهين على فعل ما يعاكس مرجعياتهم ومواقفهم ومبادئهم وأهدافهم... وإنما يفعلون ذلك فقط من باب اضطرار المتورط، فلسان حال ومقال المقاطعين يطلق عليهم رصاصة واحدة: ألم نقل لكم أنكم لن تستطيعوا... إن الفرق بين المقاطعين والمشاركين أن المقاطعين يعالجون ويحللون ويستدلون و"يمنطقون"(raisonner) داخل المجموعة N، حيث العمليات الكبرى تجرى بطريقة يفهمها ويستوعبها كل الناس(لا وجود لسلبي ولا لمجزوء).. بل تعتبر محضن التنظير ل"الفيزياء المعيشية" المحسوسة لدى العامة..
أما المشاركون فهم يقومون بنظير ذلك في المجموعة C، التي لا يكاد يستوعب مفاهيمها ولا العمليات المرتبطة بها إلا "الراسخون في العلم"(المؤهلون لفهم سلبية عدد مربع)،، والتي لا تكاد تطَبق الفيزياء المستندة عليها إلا على مفاهيم "سريالية" لا تهم العامة.. وبعض أحاديثهم عن أثمنة الأدوية، ومنح تغيير أسطول سيارات الأجرة، ومخصصات الأرامل، ومنح الطلبة يمكن أن تشكل نماذج..