تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية. هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات رمضانية بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ. الحلقة السادسة: المهدي بنونة.. الدِّبلوماسي الماهِر والصحافي المبادِر عَلَمٌ من أعلام الوطنية الأماهد، ابن حاضرة الشمال وعاصمة المقاومة تطوان، صاحِب إسهام نوعيٍّ زَمن التحرير والنضال السياسي من أجل مغرب حُر ومستقل وناهض. في عز انطلاق شرارة المواجهة العسكرية بين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي والاحتلال الإسپاني؛ ازدان فراش آل بنونة يوم 22 فبراير 1918، بالرجل الذي سيصير أحد رواد الحركة الوطنية المغربية، وأنشَط مناضلي الشمال، وصحفي لامع ودپلوماسي فوق العادة. كان أول الشباب المغاربة دراسة بنابلس في فلسطين سنة 1929، وأوّل طالب مغربي يلتحق بتخصص الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، اشتغل فيما بين 1941 – 1945 بأعرق الجرائد العربية “الأهرام”، ومنها انتقل لممارسة مهام رئيس التحرير لجريدتي “الحرية” و”الأمة” اللتان كانتا لسان حال “حزب الإصلاح الوطني”، الذي انضمَّ إليه المهدي إلى جانب الطريس وقادة آخرين، وعمِل ناطقاً باسم كل الوطنيين يوم اشتدت قبضة الإقامة العامة الفرنسية في المنطقة السلطانية على حرية الرأي والنشر وحرية الصحافة. ولإجادته اللغة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية؛ إلى جانب لغة عربية متينة، كتَب بها “شِعرا” و”نثرا” ومقالات قيّمة، ولنشاطه السياسي الكبير؛ تَم انتدابه لتمثيل الحركة الوطنية لدى هيئة الأممالمتحدة سنة 1947، وقد استَثمر مُقامه هناك؛ ليترأس “مكتب المغرب في نيويورك”، ناقلا بذلك مجال تدويل القضية المغربية من الجامعة العربية والمحيط العربي إلى الإطار الدولي والأممي. من أدواره التي يُمكِن إدراجها في نطاق النضال الدبلوماسي سنواتِ مُقامه بأمريكا؛ وُقوفهُ وراء عدم قبول اندماج إسبانيا الفرنكوية في المنتظم الدولي، وإرباكه مساعيها في الانضمام لهيئة الأممالمتحدة. كما رَفعَ في ذات التاريخ ملتمسَ قطْع الدعم المالي والمساعدات العسكرية عن فرنسا لدى لجنة الميزانية الأمريكية بالكونغرس. ومن نضالاته السياسية والدبلوماسية المشهودة؛ ممارَسَته الضغط لانعقاد أُولى جلسات مجلس الأمن لتدارس القضية المغربية عقب نفي السلطان، وذلك مساء 21 غشت 1956، بل قَبلها بسنوات، يوم كان يحثّ ممثلي الدول العربية والمغاربية لتدارس الملف المغربي في أروقة الأممالمتحدة إلى جانب الملف الفلسطيني والإندونيسي. وللمهدي بنونة إسهام نوعي إزاء القضية الفلسطينية، التي ولِع بها شابا، وخبَّرها صحافيا ودبلوماسيا، وأحاط بمجريات موقعها ضمن الصِّراع الدَّولي وفي عقلية كبار أوربا وأمريكا وبريطانيا خلال مُقامه في نيويورك وعمله في الأممالمتحدة. وقد توقفنا بكثيرٍ من الفخر والاعتزاز _أثناء قراءتنا لما كُتِبَ عنه_ عند مضامين البرقية التاريخية التي بَعَثَ بها إلى قيادة حزب الإصلاح الوطني باعتبارها “الشاهد على حَدث” قرار التقسيم الجائر في حق فلسطين سنة 1948. الرجل قاد جولات ماراطونية لإقناع ممثلي الدُّول العربية (العراق، اليمن، سوريا، لبنان، مصر، السعودية) الحاضرة في الأممالمتحدة بِعَدَم التصويت على قرار تقسيم كوريا، في مقابِل إقناع ممثلي دول الكتلة الشيوعية (بولونيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، منغوليا، يوغوسلافيا) بعدم التصويت على قرار تقسيم فلسطين، يومَ كان عدد الدول المجتمِعة للتصويت 59 دولة، وذلك لكَسبِ 21 صوتا لفائدة عدم تقسيم فلسطين، الأمر الذي كان سيعرقل بلا شكّ قرار التقسيم، إلا أنَّ الوفود العربية تَلَكَّأت في التَّجاوب مع مُقترح المهدي فكان ما كان مما نعرفه في مسار القضية الفلسطينية الجريحة. بعد انتهاء مهامه النضالية سياسيا ودبلوماسيا؛ استُقبِل استقبالا وطنيا حارا في سبتةوتطوان، وأدلى بتصريحات للصحافة تنمُّ عن وعي دقيق بتفاصيل القضية المغربية ومسار الدِّفاع عن الحق العادل للمغرب في استرجاع سيادته واستقلاله وعودة السلطان. ثم استأنف دوره الوطني في الدَّاخل. عُرِفَ بوطنيته الصادقة وتشبثه بثوابت بلاده وإعزازه لتاريخها، ونافَرَ من أجلها طيلة سنوات الثورة الميدانية والسياسية، وعقِبَ الاستقلال؛ عَيَّنه الملك محمد الخامس عضوا بالدِّيوان الملكي مُكَلَّفًا بالعلاقات العامة والإعلام، وظل ناشطا دپلوماسيا وسفيرا للمغرب بأكثر مِن دَولة ولسنوات عديدة. نال شرف تأسيس وكالة المغرب العربي للأنباء، ونجح في تسييرها في ظل شُحّ الموارِد وضُعْف الإمكانيات، وظَلَّ رئيساً لها إلى أنْ أمَّمتها الدَّولة سنة 1973. وأطْلَقَ بالمبلغ المالي الزَّهيد الذي تَلَقّاه مِن الحكومة مُقابِلَ تأميم الوكالة؛ جريدة La Dépêche في الدّار البيضاء. كما أهَّلته قدراته الصَّحفية لتَرَؤُّس “وكالة الأنباء الإسْلامية الدولية” في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، واختيارهِ لإطلاق سلسلة وكالات أنباء في تونس والسينغال والجزائر وليبيا ومالي. إلَّا أنَّه سُرعان ما حَوَّل الوجهة صوب العمل في إطار منظّمة الهلال الأحمر الدّولية، إذ ستَمْنَحه سُمعته ووطنيته ولُغاته المتعدّدة فرصةَ النِّيابة عن الأميرة مليكة في منظّمة الهلال الأحمر المغربي لسنوات طويلة، ونَيْل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظَّمتيْ الهلال الأحمر والصَّليب الأحمر بجنيف أواسط الثَّمانينات. وإلى جانب أعماله الوطنية الرَّائدة؛ تَبقى أهمّ مبادرة ساهم فيها والتي كادت تنساها الذَّاكرة الوطنية وتاريخ المغرب الراهن؛ صِياغته لمشروع “دستور” تَقدَّم به وطنيو الشمال في فاتح ماي سنة 1954، وهي الوثيقة السابقة على زمانها، والتي _ مع الأسف_ بقيت حبيسة أرشيف حزب الإصلاح الوطني بتطوان، الذي اندمج في حزب “الاستقلال” مطلع 1956، فانطفأت الفكرة وولد المشروع ميتا. كما خلّف الرجل كتابه الشهير “المغرب.. السنوات الحرجة”، وكتابا باللغة الإنجليزية بعنوان “مغرِبُنا.. القصة الحقيقية لقضية عادلة” ومقالاتٍ فوقَ العَدّ. لقد تميَّز هذا الوطنيُّ البار، والمبادِر المِدْرار؛ طيلة مساره بالمبادرة، ونُكران الذات، والصَّبر والثبات، ونشر المعرفة، والنضال. مع ما رافق ذلك مِن أخلاقٍ عربية إسلامية حميدة. وما تزال ذِكراه وآثاره تزدَهي بها حاضِرة تطوان وذاكرة البقية الباقية من وَطنييها ومناضليها، ويستحضِروهُ المارُّونَ بُكرةً وعشيا على منزله العريق الذي ما يزالُ قاما إلى اليوم بالمدينة القديمة بتطوان. وافته المنية فجرَ 23 مارس 2010 عن عمر ناهز 92 سنة بالرباط، ودُفنَ بتطوان المحروسة. الحلقة السادسة من إعداد: عدنان بن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.