حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    صواريخ إسرائيلية تصيب موقعا في إيران    نظام العسكر حاشي راسو فنزاع الصحرا.. وزير الخارجية الجزائري تلاقى بغوتييرش وها فاش هضرو    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    المغاربة محيحين فأوروبا: حارث وأوناحي تأهلو لدومي فينال اليوروبا ليگ مع أمين عدلي وأكدو التألق المغربي لحكيمي ودياز ومزراوي فالشومبيونزليك    لامارين رويال نقذات 12 حراك من الغرق فسواحل العيون    خطة مانشستر للتخلص من المغربي أمرابط    بني ملال..توقيف شخص متورط بشبهة التغرير و استدراج الأطفال القاصرين.    رئيس "الفاو" من الرباط: نفقات حروب 2024 تكفي لتحقيق الأمن الغذائي بالعالم    محركات الطائرات تجمع "لارام" و"سافران"    أساتذة موقوفون يعتصمون وسط بني ملال    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "منتخب الفوتسال" ينهي التحضير للقاء ليبيا    بوريطة: الهوية الإفريقية متجذرة بعمق في الاختيارات السياسية للمغرب بقيادة جلالة الملك    "فيتو" أمريكي يفشل مساعي فلسطين الحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة    ابتزاز سائحة أجنبية يسقط أربعينيا بفاس    طقس الجمعة.. عودة أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    بوركينافاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين اتهمتهم بالقيام ب"أنشطة تخريبية"    توثق الوضع المفجع في غزة.. مصور فلسطيني يتوج بأفضل صورة صحفية عالمية في 2024    إعادة انتخاب بووانو رئيسا للمجموعة النيابية للعدالة والتنمية للنصف الثاني من الولاية الحالية    النواب يحسم موعد انتخاب اللجن الدائمة ويعقد الأربعاء جلسة تقديم الحصيلة المرحلية للحكومة    "أشبال الأطلس" يستهلون مشوارهم في بطولة شمال إفريقيا بتعادل مع الجزائر    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    غوغل تطرد 28 من موظفيها لمشاركتهم في احتجاج ضد عقد مع إسرائيل    مدير "الفاو" يحذر من تفاقم الجوع بإفريقيا ويشيد بالنموذج المغربي في الزراعة    ما هو تلقيح السحب وهل تسبب في فيضانات دبي؟        طنجة: توقيف شخص وحجز 1800 قرص مخدر من نوع "زيبام"    لماذا يصرّ الكابرانات على إهانة الكفاح الفلسطيني؟    الحكومة ستستورد ازيد من 600 الف رأس من الأغنام لعيد الاضحى    مطار حمد الدولي يحصد لقب "أفضل مطار في العالم"    نجوم مغاربة في المربع الذهبي لأبطال أوروبا    مجلس الحكومة يصادق على مشاريع وتعيينات    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    أصيلة.. توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في ارتباطهم بالاتجار في المخدرات    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة        قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقدس والمدنس عند مرسيا إلياد
نشر في العمق المغربي يوم 23 - 06 - 2020


تقديم عام:
إن الحديث عن المقدس والمدنس، هو حديث عن ثنائية ملازمة للإنسان منذ القديم، سعيا منه لكي يضفي الشرعية والرمزية على مجموعة من الممارسات والعادات، فكل تصور ديني إلا ونجد فيه هذه الثنائية مضمرة داخله، ويشمل هذا التقابل،المقدس والمدنس أو الدنيوي. إذن، نحن أمام مفهومين شكلا قارتين يصعب الفصل بينها، أو تحليل إحداهما بمعزل عن الإحالة على الأخرى.
مما لا شك فيه أن كل دين يقوم على أسس تمنحه الطابع الخاص به، إلا أن ما يجمع بين جل الديانات والعقائد المختلفة هو الطابعالتقديسي والتدنيسي، وذلك لأجل اكتساب الرعاية والطمأنينة، لأن المقدس يولد _بكسر اللام _ في الإنسان مشاعر الرهبة والإجلال، ويقدم نفسه بوصفه ممنوعا، لأنه إذا ما تم الاقتراب منه فسيفرغ من خصائصه المميزة والفضيلة القوية والعابرة التي كانت في حوزته، لهذا يتم الحرص على جعل الشيء المقدس بعيدا عن أي شيء ينتمي للدنيوي أو المدنس.
وعلى العكس من ذلك فالمدنس أو الدنيوي لا يحتوي إلا على الصفات السلبية والناقصة، وغالبا ما يسعى المتدين إلى تجاوزه بغية منه بلوغ المقدس.
الأهم من كل هذا هو أن كل من المقدس والمدنس/الدنيوي، ضروريين في حياة الإنسان، حيث ينتظر من الأول العون والنجاح، بينما يجسد الثاني المنبع الغني الذي يخلقها.
الهدف الأساسي الذي نسعى إليه من خلال هذه المساهمة المتواضعة هو أن نبين كيف عالج الفيلسوف الروماني ميرسياإلياد مسألة المقدس والمدنس من خلال تجربته الأنثربولوجية في تاريخ الأديان؛ بهدف تفكيك هذه المقولات، أو كما يقول مترجم الكتاب المحامي عباس: " إن رسالة المفكرين في المجتمع ... هي إعادة التقييم وتمحيص الآراء السائدة والنظريات القائمة والتقاليد الراسخة والعادات والممارسات التي اكتسبت بالقدم جلالا وقداسة"، وذلك لإزالة عنها ما لم يعد صالحا.
لو عدنا إلى تاريخنا الجماعي وبحثنا فيه بشكل موضوعي وعلمي، لوجدنا أننا اليوم تحكمنا بعض الثنائيات، والعادات والأساطير والمحرمات والمقدسات القديمة، والتي لا نعرف كيف وصلت إلينا، ولا نعرف أصلها ومدى صحتها، أو قداستها...إلخ، ونفترض في هذا المقام أن السؤال الذي يؤطر كتاب "المقدس والمدنس" هو كالتالي: لماذا أضفى الإنسان منذ القديم القداسة على كثير من الأشياء ونزعها عن أشياء كثيرة؟
يرى مترجم كتاب "المقدس والمدنس" لميرسياإلياد المحامي عبد الهادي عباس، أنه قد يصل الأمر إلى حالة محزنة ترى الإنسان فيه وكأنه طبقات يمارس في بعضها الحلال وبعضها الحرام ويمارس شعائر القداسة دون أن تمنعه عن اقتراف الدناسة.ولا شك في أن الدنيوي عبر التاريخ يتصف بالصفات السلبية بالمقارنة مع المقدس.
فهذا الاخير إذن يشكل مصدرا لإغراء الإنسان، كما يشكل منبعا لأكبر المخاطر، وبالتالي فهو مرعب يفترض أخذ الاحتياط والحذر، وفي نفس الوقت مرغوب فيه.
فالمقدس في جميع تجلياته عصي على الفهم، كما أنه صعب الاستعمال، بمعنى أنه بالنسبة لغير المتدين كلما رغب في الاستحواذ على المقدس أو حاول أن يلمس بيت القربان مثلا فإنها ستصبح يده لا محال يابسة، لأنه يديه غير مطهرة، ومن هنا تتضح قدسية المقدس.
ويطرح كتاب " المقدس والمدنس" عدة إشكالات لكل من فتح صفحاته، ويمكن أن ندرج بعضها للإجانة عليها في هذه الورقة وهي كالتالي: كيف يمكن فهم الدلالة العميقة للوجود الديني؟ كيف كان الإنسان القديم/ البدائي يقدس العالم؟ وماهي سلوكاته ورموزه وأنظمته الدينية؟
تجليات المقدس
إن المقدس يظهر دائما كحقيقة من نظام أخر غير الحقائق الطبيعية، ويستخدم الإنسان لغة غير منطقية مستوحاة من الحياة الدونية للإنسان، وهذا يرجع إلى عجز الإنسان عن المطلق.
وفي هذا السياق يرى ميرسياإلياد أن غياب الديانات لا يعني زوال التدين، فالدنيوي ليس سوى مظهر جديد للبنية التكوينية ذاتها للإنسان الذي كان فيما سلف، قد أظهر نفسه بعبارات مقدسة. فالتعارض بين المقدس والدنيوي هو صفة مميزة للأديان.
ومن هنا يمكن القول بأن كتاب "المقدس والمدنس" هو بمثابة مدخل فينومينولوجي وتاريخي لظاهرة المقدس في كل تعقيداتها وكليتها، لذلك جاءكتكملة للمشروع الذي بدأه ميرسياإلياد في كتاب "تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية" في ثلاثة أجزاء، حيث بحث في كيفية نشوء الديانات منذ أقدم العصور إلى حدود العصر الحديث.
فيؤكد على أن التعريفات الأولى التي يمكن إعطاؤها للمقدس هو الشيء الذي يعارض المدنس أو الدنيوي.فتاريخ الأديان من أكثرها بدائية إلى أحسنها إعدادا، إنما هو مشكَل بتراكم مقدسات، وبمظاهر ووقائع مقدسة؛ لأن البدائية هي جعل المقدس في شيء محسوس، كالمسيحي الذي يجسد الإله في جسد يسوع، أي يجعل الحقيقة المطلقة والمفارقة تتجلى في العالم الدنيوي المحسوس.
إن الشيء المقدس كالحجر أو الشجر والجبل...الخ، لا يتعلق الأمر بتقديسها في ذاتها عند البدائيين، بل لأنها يتجلى فيها الكائن المطلق، لأن الكون بأكمله يمكن أن يصبح تجليا قدسيا.
لقد أصبح الآن التعارض بين المقدس والمدنس جليا، وهذا التعارض يترجم كالتعارض بين الحقيقي والمزيف.وعليه يمكن التساؤل حول كيف أجهد الإنسان المتدين نفسه ليبقى أكبر وقت ممكن في عالم مقدس؟ والظاهر أن الإجابة عن هذا الإشكال واضحة، لأن الإنسان المتدين يرغب دائما بعمق في أن يكون مساهما في الواقع، متبعا بالقوة، التي يستمدها من المقدس.
لقد كان إذن الإنسان البدائي المتدين له علاقة بالطبيعة وبعالم الأدوات، إذ كان يكرس القداسة التي يمكن إثقالها بوظائفها الحيوية [أغذية، جنس، عمل....الخ]،أما إنسان الأزمنة الحديثة غير المتدين أصبحت بالنسبة له هذه الوظائف الحيوية مجرد عمل فيزيولوجي لا غير، ولم تعد سرا مقدسا في الإنسان كما عند الإنسان البدائي.
فثنائية المقدس والمدنس/الدنيوي هما نموذجين مهمين في تاريخ الإنسان بشكل عام للتكون في العالم، وترتبط طرائق تكون المقدس والدنيوي بمختلف الأوضاع التي حصل عليها الإنسان في الكون، وهي تهم الفيلسوف كما تهم الباحث الراغب في معرفة الأبعاد الممكنة للوجود البشري.وبالتالي فالوجود الجماعي أو الفردي للإنسان في العالم قابل لأن يكون مقدسا في كل الأزمنة، فكيف تشكل المقدس عبر التاريخ؟
المقدس عبرالتاريخ
يقر ميرسياإلياد بأن العودة للتاريخ البشري، هو السبيل الذي يمكننا من تبيان كيف تشكلت القداسة وكذلك الدناسة، وقد أسعفته دراسته لتاريخ الأديان في تبيان أن القداسة مرتبطة بالوضعية والظروف التي كان يعيش فيها الإنسان، كقداسة الأرض في المجتمع الزراعي، وقداسة المرأة....الخ فالفارق في القداسة ينتج عبر التاريخ بفوارق في الاقتصاد والثقافة والتنظيم الاجتماعي.
فالإنسان الزراعي وحتى قبل الزراعي الذي كان يعيش على الصيد، كانوا حسب ميرسياإلياد يعيشون في كون مقدس، وتساهم في قداسة كونية ظاهرة في عالم حيواني كما في عالم حيواني.
إن المقارنة بين الإنسان القديم : الصياد الزراعي، مع الإنسان الحديث، سنجد أن الأول كان يعيش في كون مملوء بالقداسة، فيما الثاني يعيش في عالم نزعت عنه القداسة، مما يكشف سلوك الإنسان المتدين يعود لعدة اعتبارات، ومنها الظروف التي يعيش فيها الإنسان عبر التاريخ.
المكان المقدس وتقديس العالم
إن تقديس العالم أو المكان يطرحا إشكالا لا يخلو من الراهنية وبالخصوص في المرحلة المعاصرة في ظل الثورة الصناعية والتكنولوجية وهو لماذا يبدوا المكان غير متجانس بالنسبة للإنسان الغير المتدين؟
يرى الإنسان المتدين أن هناك بعض الأماكن مقدسة، ومثال ذلك هو كالتالي: " قال الرب لموسى، إخلع نعليك من رجليك، لأن المكان الذي توجد فيه هو أرض مقدسة" [سفر الخروج 5:4].لذلكفالتجربة الدينية تقتضي خلق علاقة تجانس بين المكان المقدس الذي يعتبره الإنسان المتدين وحده الحقيقي، فعندما يظهر المقدس "بتجلي مقدس" ما، لا يوجد انقطاع في تجانس المكان فحسب، وإنما أيضا كشف لحقيقة مطلقة، يعارضها عدم حقيقة الامتداد اللامحدود المجاور. فالمقدس بهذا الفهم له أساس في بناء العالم أنطولوجيا، وبالتالي فالمقدس له قيمة وجودية للإنسان المتدين. فللعيش في العالم، يجب تأسيسه، ولا يمكن لأي عالم أن يولد في [العماء ]chaos للتجانس ولنسبية المكان المقدس. هكذا يتضح أن المكان المقدس في تعارض تام مع المكان الدنيوي، لكن في العصر الحديث الذي بدأت فيه مسألة نزع القداسة عن الطبيعة/العالم، هل يمكن إعتبار هذا المشروع هو إلغاء للسلوك الديني الذي يقوم على أساس التقديس؟
يقدم لنا في هذا السياق مثال يبرز التعارض بين المكانين حتى في الأزمنة الحديثة، هو الكنيسة التي تشارك بالنسبة للإنسان المتدين في مكان غير الشارع الذي توجد فيه، فالباب الذي ينفتح لداخل الكنيسة يدل على حل للاستمرارية، والعتبة التي تفصل المكانين تدل في آن واحد على المسافة بين طريقتين للتكون دنيوية ودينية....
تشكِل العتبة التي تفصل الكنيسة عن الشارع هي الفضاء الذي يسمح بالمرور بين عالمين متناقضين، من العالم الدنيوي للعالم المقدس، كما أن المقدس في التجربة الدينية له عتبة أخرى تفصل العالم الإنساني بالعالم الأخر، حيث يمكن عبره للآلهة أن تنزل للأرض، كما يمكن للإنسان أن يصعد رمزيا للسماء ... فالمعبد يشكل "فتحة" بمعنى الكلمة صوب الأعلى ويضمن التواصل مع عالم الآلهة.
بناء على ذلك فالإنسان حسب مجموعة من الأساطير لسي هو الذي يجعل المكان مقدسا، وإنما يكتشفه بمساعدة آيات سرية، والمثال على ذلك يقول ميرسياإلياد: "يطَارد حيوان كاسر، وفي المكان الذي يصطَاد فيه، يقام المعبد، أو يترك الحيوان مدجن حرا ثور على سبيل المثال وبعد بضعة أيام يُبحث عنه ويُضحى به في المكان ذاته". وبالتالي فالحيوانهو الذي يكتشف قداسة المكان، والإنسان يجد هذا المكان بمعونة آيات سرية.
فالعالم عند الإنسان المتدين ينقسم لعالمين متعارضين، العالم الذي يسكنه والعالم المجهول، فهذا الأخير هو عالم الفراغ الذيتسكنه الأشباح والشياطين، وبالتالي فهناك عالم (كون) مسكون، والمجهول الذي يوجد وراء حدود الكون المسكون. ولا يمكن للمقدس أن يوجد في العالم الثاني الذي هو عالم الأشباح والشياطين. يقول ميرسياإلياد في هذا السياق: " إن ما يميز المجتمعات التقليدية، هو التعارض الذي تفرضه بين الإقليم المسكون والفضاء المجهول واللأمحدود الذي يحيط به: فالأول، هو (العالم) وبدقة أكثر هو (عالمنا)، والباقي ليس كونا، وإنما نوعا من (عالم آخر)."
إن ما يجمع بين هذين العالمين هو عدم التجانس المطلق. وهذا في نظر ميرسياإلياد رافق الإنسان منذ أقدم العصور وصولا لإنسان العصر الحديث، لأنه حتى عندما تم اكتشاف أماكن جديدة وفتحها من طرف الإسبان والبرتغاليون نصب الصليب كتعبير على ولادة جديدة وخلق من جديد لهذا الأرض، بإسم يسوع.
وحسب تقاليد قبيلة أرونتاوالإشلبا في أستراليا الذين ما زال اقتصادهم مبني على الجمع والصيد، فالكائن الإلهي نومباكولا كوَن في الأزمنة الأسطورية إقليمهم للمستقبل وخلق جدهم وأقام مؤسساتهم. ومن جذع شجرة (سنط) صنع نومباكولا العمود المقدس (كوا أوا)، وبعد أن دهنه بالدم، تسلق عليه وغاب في السماء (....) فأصبح الإقليم قابلا للسكن، وتحول إلى (عالم) ومن هنا الدور الطقوسي للعمود المقدس، في خلق العالم، وكسره يعني العودة للظلام وعالم الأشباح والعماء.
يتبين من هذا الوظيفة الكسمولوجية للمقدس في خلق العالم، إذا،تقدم نفسه هنا كمخلص من جهة، وترابط بين الإنسان والسماء، وعليه فالوجود البشري غير ممكن إلا بفضل هذا الاتصال المستمر بالسماء..
أ: مركز العالم
رأينا في ما سبق أن العالم يتكون من ثلاث طبقات/ مستويات، عالم السماء الذي هو عالم الآلهة، الأرض، ثم العالم السفلي الذي يسكنه الأموات. وهذا يعبر على أن الاتصال بعالم السماء معبر عنه بصورة عمود كوني. ومثل هذا العمود لا يمكن أن يقام إلا في مركز العالم.مما يدل عند الإنسان المتدين في المجتمعات التقليدية وحتى مجتمعات اليوم على أن الإنسان يسكن مركز العالم. ويقدم لنا ميرسياإلياد في هذا الصدد مثلا يوضح هذا بجلاء حيث يقول: " الجبل الكوني: لقد رأينا أن الجبل يمثل بين الصورة المعبرة لعلاقة بين السماء والأرض، فهو إذن مفروض فيه أن يوجد في مركز العالم. وهذا يضفي صفة القداسة على هذا الجبل؛ لأنه يعبر عن مركز العالم، وهذا المثال متجذر في الثقافات المختلفة، ففي الهند لديهم جبل ميرو، وهارابرزيتي في إيران، وجيريزيم في فلسطين...إلخ، وحسب التقليد الإسلامي، فإن المكان الأكثر رفعة في الأرض هو الكعبة وذلك لأن النجمة القطبية تشهد بأنها توجد مواجهة للسماء. وبالنسبة للمسيحيين، فإن الجلجلة توجد في قمة الجبل الكوني. فهذه المعتقدات تدل على فكرة أساسية على أن العالم الأرضي هو عالم مقدس لأنه أقرب للسماء، بهذا يترجم هذا الإعتقاد الديني على أن هناك أماكن في العالم مقدسة، لأنها تمثل الفتحة التي تتيح التواصل والصعود رمزيا إلى عالم السماء.
يستخلص من خلال ما سبق أن العالم الحقيقي في نظر المتدين هو الذي يوجد في المركز، لأنه يتيح إمكانية الاتصال بالمناطق الكونية الثلاثة السالفة الذكر. وقد كتب فلافيوس جوزيف في معرض رمزية المعبد أن الفناء يمثل (البحر) أي المناطق الدنيا، والمعبد يمثل الأرض، وقدس القداس، السماء.
بناء على كل ما سبق نتبين أن المقدس بوصفه خاصية ثابتة أو عابرة إلى بعض الأشياء (المالك، الكاهن)، وبعض الأمكنة (المعبد، الكنيسة، الديار المقدسة)، وبعض الأزمنة (يوم الأحد، عيد الفصح، أعياد الميلاد، الخ). لهذا يسعى المقدس إلى تقويض المدنس بكل الطرق والأشكال، وعبر الوسائل الممكنة والغير ممكنة.
خلاصات
إن حديث ميرسياإلياد عن المقدس والمدنس كانت له خلفية نظرية أساسية، مفادها مواجهة كل النزعات التي تدعو للتمركز حول الخطاب الواحد، أو النزعة والتفسير الواحد، أو ما يمكن تسميته بإضفاء المعنى على الشيء ورفعه عن الأخر. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ها هنا هو كيف يمكن لنا أن نستثمر قراءة ميرسياإلياد لثنائية المقدس والمدنس في واقعنا نحن الذي تحكمه الكثير من الثنائيات المتصارعة عبر التاريخ؟
ربما أن الإجابة عن هذا السؤال يحتاج إلى كتاب مستقل، لكن ما يهمنا نحن هو إثارته فقط، وليس بالضرورة الإجابة عليه، ولكن مع ذلك سنقدم حوله بعض الأفكار البسيطة.
فواقعنا يعيش اليوم على وقع صراعات طاحنة، وهذا يتم باسم مجموعة من الثنائيات، ناهيك على الصراعات السياسية الفارغة التي لا تهمنا هنا، بقدر ما تهمنا الثنائيات التي يتم استعمالها باسم المعتقد، الحلال والحرام، الإيمان والكفر ...الخ.
وباستيعابنا لمثل هذه المقاربات العلمية، هو ما سيكون لنا العون في المسك بخيط تلك الشبكة المعقدة، ليحل لنا المعضلات والصراعات باسم الدين. فداخل تاريخ كل معتقد كما هو الحال داخل معتقدنا نحن ما يوصف بالنجاسة، كالقريشيين والوثنيين ...الخ، فهؤلاء هم بمثابة نجاسة في التاريخ، والسبب في ذلك هو التقديس والتدنيس، وهذا ما سيفضي كذلك إلى الصراعات بين الطوائف التي ستذهب ضحيتها ملايين الأرواح.
لقد أدى التقديس والتدنيس في غالبية تاريخنا إلى السعي نحوى جعل التاريخ هو التاريخ الواحد، أو جعله الجوهر الكامل، ورمز لكل المراحل، وذلك بالعودة إلى الأصل، أي إلى السلف الصالح.
كل هذا أدى بنا للخروج من دائرة النظر، عندما تم الإعلاء من سلطة السيف للدفاع عن الحجة وليس الحجة ضد الحجة، أي الفكر في مواجهة الأفكار، وبهذا تم السير نحوى الخطاب الواحد، أو العودة للخطاب الاصل وجعله المنبع الواحد.
إن الضلالات من هذا النوع شاملة، لأنها لا تعرف للمفهوم شبكته وعلاقاته، ولكنها سلبية الاستهلاك، حيث تستهلك الجماعة ما أنتج خاصا في الأصل عبر مأسسة المفاهيم وخلق عالمها وأداء طقوسها، وبناء لغة يتحول فيها الدال إلى مدلول واحد والمدلول الواحد يعود إلى دال واحد دون وجود أي علاقة بينهما، الدال يتبعه فراغ أو نقطتان متعامدتان (شارحة:) في أحسن الأحوال، ثم المدلول يأتي واثقا دون تردد؛ هكذا علمنا الله اللغة والأسماء كلها.فهل سنخرج إذن من دائرة الفكر المغلق بالثنائيات لندخل للكونية بخطاب علمي بعيد عن التقديس والتدنيس؟
* باحث في الفلسة والعلم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.