تحتضن بلادنا خلال هذه الأيام حدثا دوليا بارزا يتمثل في المنتدى العالمي للهجرة، الذي ينظم بمدينة مراكش برعاية من الأممالمتحدة، وينتظر أن يخلص هذا المنتدى العالمي إلى إعلان ميثاق عالمي للهجرة وتوصيات مهمة. ومهم جدا أن تحتضن بلادنا هذا الحدث البارز، وهي التي قدمت بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله نموذجا مهما، و يكاد يكون متفردا في التعاطي مع هذه الظاهرة الإنسانية العالمية، من خلال مقاربة إنسانية وضعت قضية المهاجرين في صلب السياسات العمومية الوطنية، التي تعتمد مقاربة شمولية تطال الإدماج والرعاية و تمتيع الأشخاص والجماعات بكافة الحقوق المستحقة، لا فرق بينهم في اللون أو العرق، وهي السياسة التي كانت محل إجماع بالتنوية والإشادة. إننا لا نحصر ظاهرة الهجرة في دائرة شوفينية ضيقة، نرى فيها تهديدا أمنيا واجتماعيا واقتصاديا للمصالح العامة للمجتمع، ولا هي مصدر قلق وإزعاج للاستقرار العام في البلاد، ولذلك فإن اعتماد المقاربات التقليدية الماضوية، التي تعتمد على روادع أمنية و زجرية لن تكون مجدية ولا نافعة في إيجاد الحلول المناسبة لهذه الظاهرة،التي تشغل بال الرأي العام العالمي، بل إننا نراها قضية إنسانية شائكة، مردها لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية صرفة، وأن البحث عن حلول حقيقية لها يجب أن ينطلق أساسا من البحث عن الحلول للأسباب التي أفضت إليها . فالأشخاص والجماعات يقامرون بحياتهم إما بسبب الحروب والفتن و النزاعات المشتعلة في بلدانهم، وفي هذه الحالة يتملكهم الخوف على مصيرهم ومصير أبنائهم و يسارعون إلى الهروب نحو المجهول، تاركين خلف ظهورهم استقرارهم و حياتهم العادية، وهذه الحروب والفتن والنزاعات تحصل لأسباب داخلية وفي كثير من الأحيان لأسباب خارجية. وإما أنهم يفرون من بطش ديكتاتوريات متوحشة، تصادر الحقوق الإنسانية الطبيعية من قبيل الحق في التنقل و الحق في التعبير والرأي والمعارضة، وأن بقاءهم في ظل تلك الديكتاتوريات يشكل خطرا حقيقيا على حياتهم، ومؤسف أن هذه الديكتاتوريات المتوحشة تجد في بعض الحالات دعما و سندا من قوى عظمى . وفي غالب الأحيان فإن الأشخاص و الجماعات يغامرون بأنفسهم ويلقون بها إلى التهلكة، بسبب ضيق سبل العيش في أوطانهم، وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وسكن و رعاية اجتماعية و غياب كامل لفرص الشغل و غيرها من مظاهر التهميش والإقصاء، مما يفقدهم الأمل في العيش الكريم ، ولذلك فإنهم حينما يقامرون بوضع رقابهم في مقصلة مافيات و شبكات الهجرة السرية، فإنهم لا يمارسون ترفا من أشكال الترف ، بل إنهم مجبرون ومضطرون للإقدام على ذلك، أملا في العثور على فرص عيش أحسن . لذلك حينما يجري الحديث عن إيجاد الحلول لقضية الهجرة، فإنه يجب بالضرورة أن يتم البحث عن الحلول لكل هذه الإشكاليات، التي ترتبط بتنظيم الهجرة لجعلها ظاهرة مفيدة للإنسانية جمعاء بوضع حد للأسباب التي مكنتها من أن تتغول وتستعصي . من غير العدل أن يظل هذا التفاوت الفظيع في مستويات العيش بين سكان العالم ، بين شعوب تتم الاستجابة الكاملة والمطلقة لجميع حاجيات حياتهم ، و يعيشون تخمة حقيقية في إشباع هذه الحاجيات ، و بين شعوب لا تجد حليبا لرضعها و قوتا لعيالها ، و من الظلم أن يستمر و يتسع هذا البون الشاسع بين معدلات الدخل الفردي في دول العالم ، لا بد من البحث عن تحقيق ، و لو الحد الأدنى ، من العدالة الاجتماعية في العالم ، وهذا وحده ما سيضمن الاستقرار في مختلف بقاع العالم، وسيكون كفيلا لإقناع الشعوب في الدول الفقيرة والمعوزة بالبقاء في بيوتها ، بين أهاليها ، مطمئنة لمصير أبنائها . هذا ما يجب أن يركز عليه المشاركون في المنتدى العالمي للهجرة المنظم في مراكش ، وهذا ما يجب أن يشغل اهتمام المجتمع الدولي قاطبة . فحرية التنقل المضمونة بقوة المواثيق الدولية تمثل امتحانا حقيقيا لمختلف الدول والمنظمات بما في ذلك الأممالمتحدة ، وهذه الحرية لا يمكن المس بها أوالانتقاص منها إلا لاعتبارات قانونية صرفة ، وبالتالي فإن ظاهرة الهجرة مرتبطة أشد الارتباط بهذه الحرية التي يجب أن تكون مقدسة ، و لكي تكون كذلك، لا بد من أن يوفر المجتمع الدولي الشروط الاجتماعية والاقتصادية و السياسية في مختلف أصقاع المعمور، التي تضع قضية الهجرة في صلب ممارسة هذا الحق ، و تضمن تعايشا إنسانيا سلسا يوفر الكرامة للجميع، بغض النظر عن اللون و العرق و الدين و اللغة . أملنا أن تكون بلادنا من خلال احتضانها للحدث العالمي البارز، منصة لإطلاق رؤية جديدة لقضية الهجرة في العالم، رؤية تضمن إنسانية الإنسان و كرامته.