تتقاذفك يمنة ويسرة، مدا وجزا،الأمواج العاتية للطبخ والبؤس،ثم تلقي بك عند مرافئ كرنفالات أخرى أضحت تحتفي أكثر من الاحتفال ب ‹›فلكلرة››القفطان المغربي،هذا اللباس المنتمي فعلا إلى موروثات المجتمع،لكنه صار راهنا على الأقل إعلاميا،قضية وجودية وحضارية كبرى،وبمثابة رؤية العالم المطلقة،لفهم تراثنا واستيعابه وإعادة توظيفه معرفيا في سياقات صراعات القوى المعاصرة!! . هكذا،ألفنا حين تواتر أخبار التمثيل الثقافي››السياحي››للمغرب دوليا، خلال أسابيع في أوروبا خاصة،التفكير مباشرة في عروض ‹›التكشيطة ‹›و»الطواجن» و»الطنجية» و»التقيتيقات» و»الشوا» و»براريد›› الشاي،المتعالي صبيبها نحو عنان السماء،دليلا على رخائنا الاقتصادي، وما ننعم به من بحبوحة اجتماعية. لباس القفطان،أصيلا ومعاصرا،محافظا وحديثا،بأكمام أو دونها،حسب موديلات، تكاد ترتقي مع المتون الإيديولوجية للخطاب الإعلامي الرسمي،صوب أطروحة محلية وقومية نادرة،بغية المساهمة في تطوير الفكر العالمي، والانتقال به من بنية نحو ثانية،أكثر استجابة لهموم الإنسان المعاصر،والمساهمة في إيجاد حلول للمشاكل القيامية المصيرية التي يواجهها وسيواجهها :تآكل المناخ،الحروب،النزاعات السياسية،الأمراض والأوبئة الفتاكة،الجوع، الفقر... . لذلك،فتنامي الدعوات قصد الانكباب على ورشات ومشاريع القفطان،وتفريغ مختلف ممكناته،ثم ما يقتضيه الاجتهاد من مواكبة إعلامية متأهبة، تتعبأ لها الأجهزة الإيديولوجية،عبر مركزة حلقة مفصلية رابطة بين تسييس الطبخ، وتتفيه البؤس المعاش، والتعتيم على كنهه وجوهره ومضمونه،الذي تكابده لأسباب سياسية وتضميناتها، جحافل هائلة. إذا كان الغرب قد ولج منذ زمن طويل منظومة إيتيقية،لم يعد في إطارها من مجال يذكر، لمقاربة المظهر الفيزيائي للمرأة،باعتباره إنتاج ثانية لبنيات لاواعية محكومة بسلط القهر المادي والعنف الرمزي كما حدده بيير بورديو،فإننا في المغرب بصدد العودة القهقرى بكليانية كيان المرأة،إلى مجرد قماش قفطان فضفاض مزركش، و مِرآة، وأصباغ، وتجميل اصطناعي، وزواج، وطلاق وأولاد،أي كل ما تطويه أنساق القفطان البالية.بمعنى، ثقافة الحريم وعصر السرايا،مما يضرب للأسف الشديد صميميما،كل المعارك التحررية التي قادها اليسار المغربي،طيلة عقود بهدف إخراج المرأة من براثين المجتمع البطريركي الذكوري المستبد والمتخلف،بالفعل والممكن،ثم الارتقاء بها من وضعية السلعة –المتعة،ومجرد غنيمة من غنائم البنيات ماقبل - الرأسمالية،إلى كائن بشري. إذن،امتثالا للعلاقات العلية بين التكريس الإيديولوجي لمجتمع يقضي يومياته في تتبع مسابقات الطبخ وريادة الطباخين،ثم تكسير الروتين بتمليه فرجويا ومسرحيا على بؤسه المعيشي،بين طيات البؤس الفكري والاستغباء الذهني لتلك البرامج الإعلامية، التي تبتغي كما يدعي أصحابها، تطوير مشاعرنا البشرية، بإثراء حواسنا جماليا، وتفتيق عقولنا وملكاتنا!! إعلام،يعيد إنتاج على جميع المستويات،البنيات العتيقة جدا لمنظومة الحريم،حيث تؤثث الضيفات المشهد والديكور،على النحو التالي :ارتداء قفطان بطريقة استعراضية فولكلورية،لا تخلو كليا من تركيز أبله مقصود على المظهر الخارجي:((استدعاء النساء الدائم لمظهرهن الفيزيائي،يزعزع استقرارهن ويختزلهن إلى رتبة أشياء معروضة))(فاطمة المرنيسي،الحريم الأوروبي،ص238).وما يتوخاه الأمر،باختزال حقيقة المرأة إلى إغواء لا غير،كما سيعكسه جليا، حوارها التافه، والموغل في السطحية مع المنشط :فارس الأحلام، زواج البوغوسة بالبوغوسbeau goss ، الزين، الماكياج، تصفيف الشعر، الحاجبين،العيون،عمليات التجميل،مسابقات الجمال، المال،اللوك، الفيلا، السيارت،التخربيق...،بحيث حين تجميع هذه الكلمات- المفاتيح،وتلقينها للفتاة المغربية الجديدة والمستقبلية،كما ترسي معالمها الأجهزة الإيديولوجية لأعلام الطبخ والبؤس،سيكتشفها الواحد تنضيدا كرونولوجيا للقطات سيناريو بهذه المتواليات :تتزين فتاة بقفطان،جالسة من الصبح حتى المساء،تتابع برامج الطبخ والموضة وتفاصيل المسلسلات المكسيكية والبرازيلية،مشتغلة في غضون ذلك،على شكلها الخارجي،تتهيأ للمشاركة في مسابقات››ميس المغرب››،بالتالي لا تخلو قبضة أناملها من مِرآة وبجانبها حفنة مساحيق،أو كما عبرت عن ذلك إحدى ‹›أيقونات›› ضحالة راهننا المعرفي والفكري،المٌروج لها إعلاميا باعتبارها رمزا ونموذجا للمرأة المغربية المعاصرة، بقولها :''ما كيخاوش صاكي من عكير !!''،بمعنى التصاقها الهوياتي والماهوي،بالصاروخ المسقط لأعتى الأعمدة الذكورية، المتمثل في الفعل السحري ل»أحمر الشفاه››:((المرأة التي لاتستعمل غير جسدها-أي جسدها دون دماغها-هي بالضرورة عاجزة عن تغيير وضعها))(فاطمة المرنيسي،الحريم الأوروبي،ص79)، تترقب الفارس الوسيم المخنث، المُلاحق بدوره على مواقع التواصل الاجتماعي،والمُتحرش به ليلا ونهارا، واقعيا وافتراضيا،بسبب لعنة وسامته، من طرف حشد عرمرم،على شاكلة الصورة البانورامية للشابات اللواتي يتضرعن السماء والأرض، كي تتاح لهن فرصة، لدقيقة ‹›بَسْ››أمام لجنة اختيار أفضل صوت عربي،والتملي ببهاء أعضائها!!غير أنه تجاهلهن جميعا،واختارها شخصيا، بشحمها ولحمها،كي يحلق بها بعيدا نحو عوالم الخدم والحشم. حتما، ‹›فلكلرة›› القفطان ومأسسته إيديولوجيا،وما يضمره التطلع من ثقافة في غاية الرجعية والتخلف والتبخيس لقيمة المرأة وعرقلة تطوير المجتمع،نحو الحداثة الحقيقية،ربما أثار النقاش القديم-الجديد،والجديد-القديم،المتعلق عند المرأة تحديدا بعلاقة الجمال بالذكاء،انسجاما مع الإشكال الذي قاربته المرحومة المرنيسي بمتانة علمية :جميلة وبلهاء،أم ذميمة وذكية؟ثم دور الذكاء وبناء الأدمغة،في خلق نسوة متحررات داخليا،سويات وسليمات نفسيا و مشاعريا،ينهضن بمشروع تحديث مجتمعهن شكلا ومضمونا،برفقة طبعا رجال أذكياء،متحررين داخليا وأسوياء وسليمين نفسيا. تكاملت الأدوار الثلاثة لِ : مؤسسات المجتمع المدني ، والجيش ، مع الدولي ، في صناعة ثورة الربيع العربي منذ عام 2011 ، في تونس ومصر ولدى ليبيا ، فمؤسسات المجتمع المدني حَرّكت الشارع ضد الأنظمة الثلاثة بعد أن وظفت حاجة المواطن العربي للخدمات الحيوية وللعدالة الأجتماعية وللديمقراطية ، وهو ما عجزت الأنظمة العربية على تقديمه وتوفيره لمواطنها ، واستجاب الجيش لحراكات الشارع الاحتجاجية ، ووجد التحريض والغطاء والمتابعة الملازمة للأحداث من قبل صُناع القرار الدولي لدى الأميركيين والأوروبيين ، في كل من جيشي تونس ومصر اللذان قادا عملية تغيير حسني مبارك وزين العابدين بن علي ، ولكن الجيش الليبي لم يتجاوب مع التحريض الدولي ، ولم يتعاطف مع حراكات الشارع الاحتجاجية ، فأكمل القرار الدولي حصاره وإنقضاضه وتدخله القتالي المباشر ، فأسقط نظام القذافي بالعمل المسلح الأميركي الأوروبي . وكانت سوريا الحلقة الرابعة ، التي توقف عندها وفيها قطار الربيع العربي ، ولم ينفذ نتيجة عدم تكامل الأدوار بين العوامل الثلاثة " المجتمع المدني والجيش والقرار الدولي " ولم تفلح في إستكمال وظائفها ، وتكاملها مع بعضها لإسقاط النظام وتغييره ، فمؤسسات المجتمع المدني لعبت دوراً مبادراً ناجحاً بما يليق بها ، وبما هو مرسوم لها ، ووجدت الغطاء الدولي المناسب ولكنه لم يكن كافياً لتحقيق ما هو مطلوب كما حصل في المحطات الثلاثة السابقة ، وقد تم إستبدال الغطاء الدولي بالغطاء الاقليمي الذي كان أكثر حضوراً وتطرفاً ولهفة ، داعماً لحركة المعارضة وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين وغيرهم من الاتجاهات الاسلامية والأصولية التي تسيدت المشهد الثوري على الأرض وفي الميدان ، بدعم تركي وخليجي . لم تكتمل أدوار العوامل الثلاثة مع بعضها في سوريا ، فإذا إستثنينا العامل الأول المجتمع المدني ، فقد أحبط العامل الثاني وهو الجيش الهدف حيث بقي الجيش السوري متماسكاً موحداً ، ولم تخرج منه وعنه ما يمكن أن يضفي خللاً على أدائه ، بإستثناء حالات فردية سواء من كبار الضباط أو الأفراد ، ولكنها سُجلت كحالات فردية لم تترك أثرها العميق على المؤسستين العسكرية والأمنية إضافة إلى المؤسسة الحكومية والدبلوماسية وكذلك مؤسسات حزب البعث ، والتي بقيت في أغلبها متماسكة موحدة ، وصدت بما تملك من إمكانات المواجهات المسلحة ضد المعارضة السورية المدعومة بأطراف دولية وإقليمية . أما العامل الثالث فهو أيضاً كان حاسماً في فشل برنامج إنتصار الثورة وإحباط مخططها وحصيلة هدفها ، فقد أدى العامل الثالث الدولي دوره الكامل في توفير الغطاء لعمليات التغيير في البلدان الثلاثة تونس ومصر وليبيا ، ولكن لدى سوريا ، إنقسم العامل الدولي ، حيث وقفت روسيا والصين مع نظام الرئيس بشار الأسد ووفرت له عوامل الصمود وأدواته ، بينما وقفت الولاياتالمتحدة وأوروبا مع المعارضة المسلحة ودعمتها ، وإنعكس ذلك على شكل وحجم الدعم المقدم من الطرفين المتصارعين على الأرض ، وحصيلته إخفاق الثورة والمعارضة المسلحة من تحقيق غرضها في إسقاط النظام السوري وتغييره . نجاح ثورة الربيع العربي ، في كل من تونس ومصر وليبيا يعود لتوفر عوامل الانفجار والأحتجاج والرفض كما هو حاصل لدى البلدان الثلاثة ، سواء توفرت كافة العوامل المحفزة أو بعضها على الأقل ، بعيداً عن الرغبات الذاتية ، أو الرؤية الأحادية نحو ما هو سائد وهي : 1- غياب الاستقلال السياسي والأقتصادي ، و2- عدم توفر العدالة الاجتماعية ، و3-الافتقاد للديمقراطية ، وهي لم تكن متوفرة لدى سوريا مثلها مثل تونس ومصر وليبيا ، حيث أخفق النظام في دمشق طوال عقود مضت على تحقيقها وتكاملها وإن كانت أقل في بعضها أو أكثر مع بعضها الأخر مقارنة مع البلدان العربية ، ولكن تكامل أدوار مؤسسات المجتمع المدني مع الجيش مع الغطاء الدولي ، توفر لدى البلدان التي نجح فيها التغيير وأخفق في سوريا لأن العوامل الثلاثة لم تتوفر فالجيش السوري بقي متماسكاً مع النظام ، والغطاء الدولي إنقسم إلى قسمين ، ولم يكن موحداً كما حصل مع تونس ومصر وليبيا وكما سبق وحصل في العراق ، وقد سبق لمسؤول روسي أن قال لمسؤول عربي " لقد خطفت واشنطنالعراق وليبيا في غفلة من الموقف الروسي ، ولكنها لن تتمكن من فعل ذلك في سوريا " ، وهذا ما حصل حيث حمت روسيا النظام من السقوط والأنهيار ، وتراجعت الولاياتالمتحدة بعد أن فشلت خلال خمس سنوات من تحقيق غرضها بتغيير النظام السوري ، فوقع التفاهم الروسي الأميركي البديل ، وهو إتفاق وقف إطلاق النار وفرض التهدئة تمهيداً للتسوية المنتظرة . مما يدلل في قراءة متأنية لحصيلة ثورة الربيع العربي ، سواء في نجاحها في إسقاط أنظمة ، أو إخفاقها في إستكمال خطوات المطالب والتطلعات داخل كل بلد عربي وهي إستكمال مضامين الاستقلال السياسي والأقتصادي وشروطه ، وتوفير العدالة الاجتماعية المفقودة ، وتحقيق الديمقراطية الغائبة وطالما لم يتحقق ذلك ، ستبقى ثورة الربيع العربي محطة ، ولكنها ليست المحطة الأخيرة ، حيث بات من الضرورة الوصول إلى محطة أو محطات لاحقة توفر للإنسان العربي أنظمة ذات حكومات برلمانية حزبية لدى البلدان الملكية ، ورؤوساء منتخبين لدى الأنظمة الجمهورية ، وبذلك ولوحده يمكن تحقيق المطالب الضرورية والملحة وهي إستكمال الاستقلال وتحقيق العدالة وتوفير الديمقراطية وهذه لن تتم إلا من طرف حكومات برلمانية حزبية ومن رؤساء منتخبين ، وهذا لن يتم إلا عبر صناديق الاقتراع أي عبر إرادة الشعب ورغباته وإنحيازاته .