المغرب وروسيا يعززان التعاون القضائي بتوقيع مذكرة تفاهم    ميراوي يستبعد خيار السنة البيضاء بكليات الطب ويعلن قرب حلحلة الأزمة    وزير : جمهورية الرأس الأخضر عازمة على تعزيز تعاونها مع المغرب في المجال الفلاحي    المنتخب المغربي داخل القاعة يبلغ نهائي كأس إفريقيا على حساب ليبيا ويضمن التأهل للمونديال    نهضة بركان يخوض حصة تدريبية داخل مطار العاصمة الجزائر ردا على احتجازه بسبب خريطة المغرب    توقيف ثلاثة أشخاص بطنجة لارتباطهم بنشاط شبكة إجرامية تنشط في الاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية    الحكومة الاسبانية متفائلة بخصوص فتح المعابر التجارية بين مليلية والناظور    النساء الاستقلاليات يكرمن البرلماني نور الدين مضيان بالناظور    نهاية التأشيرة الذهبية أثرت على مبيعات العقارات في البرتغال    وزارة التجهيز والماء تهيب بمستعملي الطرق توخي الحيطة والحذر بسبب هبوب رياح قوية وتطاير الغبار    الأمثال العامية بتطوان... (577)    تسجيل حالة وفاة و11 إصابات جديدة بفيروس كورونا خلال الأسبوع الماضي    خاص..الاتحاد ربح الحركة فرئاسة لجن العدل والتشريع وها علاش الاغلبية غاتصوت على باعزيز    دركي يطلق الرصاص على كلب لإنقاذ قاصر مختطفة    المعرض الدولي للكتاب.. بنسعيد: نعمل على ملائمة أسعار الكتاب مع جيوب المغاربة    ها أول تعليق رسمي ديال إيران على "الهجوم الإسرائيلي"    مقرب من رئيس مجلس النواب ل"گود": التمثيل النسبي والدستور كيعطي الحق للاتحاد الاشتراكي لرئاسة لجنة العدل والتشريع    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في صيانة محركات الطائرات    مؤشر ثقة الأسر المغربية في وضعها المالي يتحسن.. وآراء متشائمة في القدرة على الادخار    الوكيل العام يثبت جريمة الاتجار بالبشر في ملف التازي وينفي التحامل ضده    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    سيول: راغبون في مشاركة المغرب بالقمة الكورية الإفريقية الأولى    الجزائر تبرر طرد صحافي بمواقف جون أفريك    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    السجن المحلي الجديدة 2 ترد على ادعاءات سجين سابق تقول ب "تجويع السجناء"    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني عن 81 عاما    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    قبل مونديال 2030.. الشركات البرتغالية تتطلع إلى تعزيز حضورها في السوق المغربية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في تقليد إعلامي جميل مدير «الثقافية» يوجه رسالة شكر وعرفان إلى العاملين في القناة    فيديو لسائحة أجنبية ينتهي بتوقيف منتحل صفة بفاس    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«رحلة العطش» لمحمد بنعلي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 04 - 2016

إن للشخص ذي الإعاقة، ذي الحاجة، الشخص الموجود قَدَرًا في وضعية صعبة فَاقَمَتْها الإشاحةُ والإهمالُ والنسيانُ، له الملكات، والموهبة، والقدرة والنبوغ والعبقرية، القدرة الكاملة على الكتابة والإبداع والحلم، وحمل الناس على الحلم. ومن عمق الحاجة هذه والإعاقة الجسدية أو النفسية أو العقلية، يمكن للأدب والإبداع والفن بعامة، أن يرتفع ويحلق ويسمو. ولنا في ما كتبه أشخاص في وضعية إعاقة، ما يؤيد قولنا، ويقوم دليلا على رأينا :
هيلين كيلر – أبو العلاء المعري – هوميروس- بشار بن برد- طه حسين – بُورَخيس – الرافعي – روزفلت – نيوتن – عالم الرياضيات: ستفين هاوكنغ- بْرَايْ- أديسون- بَاسْتُورْ- الترمذي، والكسندر جوليان. إلخ.
ما ينبغي فعله فقط، هو أن نفتح لهم الأذرع والصدور، ونوفر لهم الشروط الموضوعية المادية، والأدبية، والحقوقية، والرمزية، لينفتحوا على الآخر، على الغير، ويقيموا معه جسرا من الحوار والنقاش النديين، والمحبة والعيش المشترك. ونقدر طاقاتهم، وكفاحهم، وحس الفكاهة والسخرية من المجتمع، ونظراته إليهم، ونُكْبِرُ فيهم هذه الروح القتالية، الروح العظيمة التي تُعْلِي من قدْر الإنسان كيفما كان، وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أو التردد أو التأتأة، أن هذه الفئة «الخاصة» تسطر – بما يثير اعتزازنا وتقديرنا وإعجابنا، صفحات رائعات من الكبرياء البشرية، والسمو الروحي، والقدرة العجيبة الرهيبة على التحدي، وخلق شروط الإقامة الفضلى المطلوبة، والمنشودة على الأرض. ولنا في ما كتبه وأبدعه واخترعه من أشرت إليهم، وما كتبه صديقي محمد بنعلي وآخرون، ما يؤيد وجهة نظرنا. ولنا –أيضا- في ما كتبه الفيلسوف السويسري المعاق منذ الولادة: «ألكسندر جوليان»، مِرْآة مجلوَّةٌ ناصعة تتمرأى فيها كتابات أنداده وأشباهه، وتجد صداها في المرآة إياها عاكسة معكوسة تنطق بالمشترك والصميم الذي يصهر ويُبَوْتِقُ دفائنهم وأفكارهم وهواجسهم وتوقهم وإرادتهم في الحياة.
ففي كتابة الثاني : «مهنة الإنسان»، درس بليغ في الحياة، وللحياه. وفي الثاني: «éloge de la faiblesse» «مديح الضعف»، عرض مثير ومؤثر عن سيرة كفاح كبير وأليم، وصراع دؤوب وشرس مع الإعاقة. ومِنْ ثَمَّ، فالكتاب يعكس ويبلور قوة خارقة تماما.
إنها القوة التي تتطلب وتستوجب صراعا يوميا، ما ينبغي تعهدها كشعلة نور أو نار، بالحرص والعناية والحذر، كونها فريسة سهلة وفي مهب أية نأمة ريح. هذه القوة –فيما نقول- تأتي من الآخر، تبنى وتشيد به ومعه، وأحيانا ضده، ولكن معه في أغلب الوقت. إني – يقول : «أمجد الصداقة تمجيدا لا يقف عند حد. وأول أصدقاء ذوي الإعاقة، هم آباؤه – وهو عين ما تركز عليه، أيضا، رواية محمد بنعلي. إن العلاقة الوطيدة مع الآباء – منذ البدء – هي ما يجعلنا نكسب ونربح أشياء كثيرة.
فنحن في حاجة إلى ثقة فينا وبنا، الثقة البانية، ومتى تمت وتحققت، فإن الأمل يصبح شعاعا حياتيا، يقدح أعماقنا، وينير عتماتها [كما أضاء وجود صابر بطل رواية بنعلي، ووجود فاطمة].
«فإعاقتي – يقول «جليان»–فيما يبدو- كانت سببا في استنفار كلي وشامل لشخصي، وروحي، لحركيتي وطاقاتي. ولو لم أكن أعاني هذا الجرح ما استنفرت من دون شك أقصى طاقتي».
من منطلق هذا الاعتراف.. هذا البوح العميق الصادق العظيم للفيلسوف السويسري، يمكن أن يقول بأن الإعاقة الحقيقة هي إعاقة الجهل والتخلف، والكسل، والتواكل، وتنويم العقل.
وليس من شك في أن نظرة المجتمع إلى الأشخاص ذوي الإعاقة، هو ما ساهم في انكماش الكثيرين والكثيرات بعدما وَأَدُوا موهبة مشتعلة، وأطفأوا جذوة إبداع وفكر كانت تتحفز للاشتعال، ونشر نورها على الخلق والمجتمع.
ما يعني أن الإهمال والنظرة التمييزية، والتسويف الحكومي، تسويف ومماطلة أصحاب القرار في إحقاق حقهم في الإدماج والاعتراف بشخصهم وعبقريتهم، وقدراتهم الجبارة، ساهم في عزلتهم وشعورهم بالدونية والعبء على أنفسهم وعلى المجتمع.
إن خطورة «ما يحدث أنه يضع فاصلة شعورية تنمو مع الوقت، وتعرقل العمل نحو الاندماج، ومن ثم، يتعين مد اليد الحانية المعترفة، إليهم، لا اليد المشفقة – بغاية احتضانهم وتطمينهم، وإتاحة الفرص، كل الفرص أمامهم، من تعليم وتربية، وتكوين، وتثقيف وعمل وخدمات، ورعاية طبية وتقنية، ونشر إبداعهم شعرا وقصة ورواية، وتشكيلا، وموسيقى، وتقديمها للعموم، وإشاعتها بين التلاميذ والطلبة، والمؤسسات العمومية المختلفة. بغير هذا، سيظل الشخص «المعاق» يعاني الأمرين والظلمين: «ظلم الطبيعة والقدر، وظلم ذوي القربي. ولعل ظلم ذوي القربى، أمر وأشد قتلا ومقتلا، على رأي طرفة بن العبد :
وظلم ذوي القربى أشد مَضَاضَةً على المرء من وقع الحسام المهند
لأن أفدح إحساس – كما تقول جوليا كريستيفا وجون فانيه vanier : « أن تحس أنك ولدت بالجسد الخطأ، في الوقت الخطإ، والمجتمع الخطإ، وأنك متهم في وجودك وكيانك، بما أنك ناقص جسديا أو عقليا«.
فماذا عن رواية : رحلة العطش؟
تنبغي الإشارة أولا إلى أنها كانت حاضرة في تضاعيف هذا التمهيد جوّانيا، لا لأنها صدى مرآوي لأفكار جوليان، وإنما لأنها تجد صورا من ذلك البوح الأليم في سيرتها، سيرة ناسها من عمال، وساكنة، ومكابدي «إعاقة». فالمعاناة واحدة، والوجه الوجودي الهصور واحد، وإن اختلف وضع من وجد في أوروبا ومن وجد في مجتمعات متخلفة لم تنتشر وتستتب فيها الحقوق كاملة.
وتنبغي الإشارة إلى أن بيت أبي القاسم الشابي :
ومن لم يحب صعود الجبال
يَعِشْ أبد الدهر بين الحفر
هو المُوَجِّهُ والمرجع، والخيط الناظم النابض بالدلالة الحافة والعميقة للنسيج الروائي ل محمد بنعلي، الموسوم ب «رحلة العطش». مُوَجِّه وبوصلةٌ بما يختزنه ويحمله من معنى التحدي والصراع والمجابهة، والمغامرة، وركوب الصعب، والجهر بالرأي، والصدع بما يراه ذو الحاجة الخاصة، الشخص في وضعية إعاقة، حقا وما يعتبره –بحق- غَبْنًا في حق شخصه، ووجوده، وحضوره، وقدره، وعلاقته بالناس، والكون، والمجتمع، والحياة.
إن الشخص في وضعية صعبة، يقول –بشكل أو بآخر، وبلغته أو صمته ما شَكَّلَ عنوان كتاب قوي، فادح الفائدة، مؤيد بالتجربة الميدانية، والخبرة اليومية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس والأدب، والأنثروبولوجيا. يتعلق الأمر ب: «كتاب جوليا كريستيفا، وجون فاني = vanier "Leur regard perce nos ombres». وفي العنوان ما فيه من عمق استعاري، وَبُعْدٍ مجازي، وحقيقة أليمة وفظيعة، إذ تترجم إحساسا يند عن الوصف، لا يستشعره إلا من أصيب في جسده، أو في عقله، أو في نفسه.
ولسنا في صدد تفكيك دلالة العنوان، وتشريح كفاءته اللغوية والمجازية، فذلك موضوع آخر، وله مقام آخر، نَضْربُ له موعدا مع مقال آتٍ.
«رحلة العطش» للكاتب العصامي محمد بنعلي، هي واقع ناتيء عاشه الكاتب، وعاناه، وكابده مع شخوصه، ومع المكان الذي شهد ميلاده، ونشأته، ونموه، وعطبه الجسدي، واقع مرفوع على محفة المجاز، واللغة الواصفة، والحميمة الرقراقة شعرا في كثير من صفحات العمل الروائي.
إن الكتابة تكون سطحية باردة وفجة إذا غمست ريشتها في محبرة الواقع العياني المرئي الملموس والمعيش، ولم تَعْلُ عليه، وتَرْقَ بمقدار. أما هذا العلو، وهذا الرقي، فتتكفل به اللغة، وكيفية استخدامها وتشغيلها. فإذا أحسن المبدع وأجاد في تصريفها وتوظيفها فيما يضفي على الواقع الجديب النافر المتحدي، رُوَاءٌ وشاعرية، وقابلية للعيش أو التعايش بينه (بين الواقع)، وبين الحلم، فإنه ينشيء عالمه الإبداعي المخصوص إنشاء. فالحلم ماء في صحراء العطش، وزوادة تحمل في أحشائها الحياة في رحلة بدأت ولم تنته، أو هي انتهت إلى بقية من شعاع أمل يخفق بعيدا في الأفق. هو ذياك الشعاع الذي ما انفك صراصير الانتهازية والوصولية، والخيانة، يصادرونه، ويعملون لطمسه وإنهائه دَرْءًا لعيش كريم تتغياه الساكنة جميعها، ويسعى إليه العمال المستغلون بخاصة.
يُفَتِّتُ محمد بنعلي رواية «رحلة العطش» إلى روايات ثلاث هي : «يوم الاقتراع» و»الصوت المبحوح»، و»رحلة العطش». والحق أنها – في تقديري الشخصي- رواية واحدة تتشكل من ثلاث لحظات واقعية ووجودية: 1-لحظة تيهان وفقدان- 2-لحظة البحث عن متكإ وسند، و3-لحظة تثبيت وترسيخ الوجود والكينونة.
وفي كل هذه اللحظات المسرودة بقلم جريح، مُعَنَّى، يسرد، وهو مُنْطَوٍ على الجمر، ولسعات العذاب، وسياط الظلم الموجعة، تبني الرواية عوالمها في تصادٍ بينها، وتجسير للمعنى المتنامي، والدلالة الواحدة المتكثرة، التي تَشِبُّ وتتسع خطوة، خطوة، معتنية بتسارع الأحداث، وتضخم التدخلات، وتواتر الحوارات، وتصدر الوصف الممتع والموجع لمختلف أصداء التمفصلات والتمرحلات الوقتية والزمانية والمكانية، والنفسية، وقد عرفت الرواية كيف تقبض عليها من أعناقها النافرات لتعيدها إلى مضمار «الحقيقة»، والواقع المراد الإفلات منه وتخطيه بغية نشر الأوهام، أوهام العيش الكريم، والدعة، والوساعة التي يحيا في كتفها العامل المسروق والمستغل، وأبناؤه المغصوب غدهم، والمظلم حاضرهم ومستقبلهم، ونساؤهم اللواتي ينتظرهن عيش موحل، وخبز حاف، وكرامة مهدورة، وبغاء رجيم بعد موت أزواجهن الفجائي تحت رُدَمٍ من «الشربون»، أو سقطة في بئر بدون قرار، أو تحول إلى لحم مفروم تحت عجلات عربة طائشة.
ولكن بعد موت آتٍ يسعى إليهم بدون كلل لأنه فيهم يحملونه آناء الليل وأطراف النهار في سُعَالٍ لا ينتهي، وصدور منخوبة يسمع زفيرها، وروح تصعد ولا تكاد تعود إلى القفص الصدري الذي اهترأت رئته، أو تنزل فلا تقوى على رمي ما به من مخزون أسود قاتم، ودم مخلوط بالفحم والشقاء، والاستغلال المقيت.
فاللحظة الأولى روائيا الموسومة ب «يوم الاقتراع، تصور شمعة أمل اشتعلت ثم انطفأت قبل أن تكمل دورتها، ما يعني تصور قيام الوعي العمالي وانشباكه بالحيف وإطلاق الإضراب والاعتصامات. وتبرز – في الأثناء- معاناة الآباء حين يصاب أبناؤهم بالإعاقة التي يقفون أمامها حيارى، متألمين، لا يَقْوَوْنَ على فعل شيء وقد نُزِعَ منهم كل شيء.
واللحظة الثانية: «الصوت المبحوح» هو صوتٌ تَوَفَّقَ السارد في توصيفه، يرتد إليه صداه، علما أن الاختناق قَدَرُه وساحته وطوقه، إذ الصوت لا يذهب أبعد، لا يصل إلى ما قدر له أو رُغِب فِيه، وتُوَخّيَ له.
وهو صوت باكٍ ومُدِينٌ، يحاول سَبْر أغوار وضعية الشخص المعوق من الداخل اعتمادا على تجربة ذاتية، وتجارب كثيرة أخرى مماثلة حاولت تصوير حياة شاب معوق يعيش ببلد ليس فيه قانون يضمن له حتى حق الحصول على كرسي متحرك، رجل آلية أخرى، فكيف والأمر على ما هو عليه يطالب بحقه في التمدرس والتكوين والشغل.
الصوت المبحوح، هو صوت المُحْبطين العاجزين، المنكسرين، والخائبين، وصوت ذوي الحاجات الخاصة الذي لا صدى له ولا رَجْعٌ، ولا مُلَبٍّ، ولا « سَابقٌ بالخيرات «. وفي المفصل هذا، يتقدم الحكي، والوصف، والسرد، والحوار، مسبوكا في لغة جميلة وصافية، تستبطن جراح الذات، جراح المعوق الذي يرى كل شيء ينسرب أمامه، ويتلاشى كما ينسرب الرمل من بين فروج الأصابع، ولا يقوى على إيقافه، والتعلل بأمل قادم، أملٍ وشيك، أملٍ يحمل بِشارةَ غدٍ أرْحمَ، أكثر إنسانية، يعترف له بحقه الكامل غير المنقوص في بناء مجتمعه عبر التعليم، والتثقيف، والتكوين، والشغيل، وسد جوعة حاجياته.
كما يحكي المفصل إياه، بؤس واقع حال العمال، وشراسة الاعتداء والعدوان على حقوقهم، وآدميتهم.
أما «رحلة العطش» فتروي معاناة أنثى معوقة ببلدة المفاحم. ويرسل السارد على لسانها بوحا شفيفا حميما دافقا وممتعا في الحب والحياة، جديرا بامرأة أصبحت تعي قوتها، ورغائبها، ومطالب جسدها كأي أنثى، وحقيقتها، وعنفوانها على رغم عطبها الجسدي.
إنها رحلة في المجاز، وفي الحقيقة، تخترق القص الممتد، والسرد المتنامي الذي يتأرجح بين الوصف والحوار، والمونولوج في قماط درامي أكثر الوقت، وساخر سخرية سوداء بين ثنايا المروي، وفي خلفية الحكي ودخيلته الغائرة. فهي رحلة تتم في صحراء متعينة، مرسومة الحدود، والزوايا، والأطوال، والأعراض والأحجام، وغير متعينة ولا محددة في الوقت نفسه. إذ الصحراء الأولى هي المكان الفيزيائي الجغرافي ذو السحنة الباكية الكابية الدامية السوداء المغبونة والعطشى، مع أن فيها ماءً يترقرق، لكن في «صنابير» جرادة الفوقية، لا جرادة التحتية، كأن حالها حال الشاعر الذي قال في الحب مع تعديل ينبغي سحبه على ما نحن فيه:
وأعجب ما لقيت من الهوى قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهرها محمول
«فمُخْرِجُ» الفحم الحجري «الشَّربونْ» في ظروف أقسى وأشد قهرا، وأَمَرُّ، وأمضى على الجسد والنفس، والقدرة الإنسانية، شِيءَ له أن يوصل الحمولة المستخرجة «الكنز المدفون» الذي يُدِرُّ المال، والجاه، والتسلط، والحياة المُرَفَّهَة، إلى فئة معينة، أقلية مستغلة لا إنسانية فيها، ولا اعتبار في شرعها الحيواني المتوحش للإنسان الذي يبيع دمه وعرقه لقاء حفنة ترتد إليه بعد أن يشبع «الأباطرة: « [صَمْصَمْ هنا] «، ويبطروا ويتجشأوا ما فَضُلَ منهم.
رحلةٌ –إذًاً- مع ذلك، في الجحود والنكران والإقصاء، والتمييز، والعزل، والقتل. وهي السمات الأخرى الحافة بسلسال القص، ومعناه الآخر، معناه التحتاني الدفين. وهو الصحراء الثانية : صحراء النفس والروح، والأفق المنذور للإهمال، والنسيان، والظلم المتسلط على الشخص المعاق. و»فاطمة» تسمو على عجزها مرتين: كونها أنثى، وكونها معوقة.
غير أن السارد، وبقليل من المكر الأدبي والنفسي الذي هو بمثابة بَلْسَمٍ وَتَرْياقٍ روحي، ينهي العمل إياه بواحة تغدق الماء والظل، والمن والسلوى حين يسترد الشخص في وضعية إعاقة، وعيه الحقيق بسويته، وسواءيته، وسواسيته، واعتباره من حيث هو أحد مداميك المجتمع، لا عالة، ولا عبء، ولا فضلة ونافلة، ويد من أيادي البناء والتشييد، والنهوض بالمجتمع، إبداعا، وعلما، وتربية، واختراعا، وتفكيرا وعملا.
يقول البطل الروائي، في ص108 : [لن تستطيع أيها الحوت الشَّرِهُ أن تأكلني حتى ولو وقعت في يديك. ألا تعلم بأن لحمي مُرٌّ؟ إنك لن تقدر على ابتلاعه مهما حاولت، قبلك حاول منجم جرادة، وحاول «صمصم»، وحاول الزمن من قبل ومن بعد. عد إلى رشدك أيها الحوت المغرور]. إلخ.
هكذا، ينشب المونولوغ، وينطلق الحوار الداخلي مفتتا خطية السرد، ومضفيا دينامية وانعطافة للحكي الذي يصطنع حوارا مع اللامرئي، مع المشخصن «الخرافي»، ولكنه محاور شرس وعدواني بما لا يقاس. إنه القدر، وإنه الوضع الظالم الذي وضع فيه المعوق، ولم يكن له اختيار فيه طبعا.
فالظلم يصبح حُوتا شَرِهًا، كَوْسجًا داميا ساحقا، إلا أن «البطل» يرفع التحدي في وجهه عاليا، إذ مرارة جسمه انتقلت إلى نفسه، وهو ما لا قدرة للظروف القاسية، ولا للظلم الطبيعي والاجتماعي للتسرب إليها، ولا سبيل إلى تمزيقها، فالحائل –في كل هذا- إصرار ومكابرة وَتَحَدٍّ، وعزم حديد لا يغله الضرب المتواصل، ولا الألم المبرح، ولا النار الموقدة اللاهبة. قال المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
ومن جهة أخرى، يُزْهِرُ الجبل في الرواية كما يزهر وعي العمال بوضعهم المأساوي، وباستغلالهم المنهجي، كما يزهر حضور الطلبة، و»المثقفين» العضويين أبناء المنطقة، وهم يفتحون أحداق آبائهم، وإخوانهم، والعمال بصفة عامة على حقوقهم المغتصبة منذ ما يزيد على خمسة عقود.
هذا الإزهار فيما يصوره ويقصه بلوعة وتوفيق فني، صاحب الرواية، والسارد الضمني، يلعب دور المحرك الرئيس لأحداث الرواية المتسارعة ويهبها توترا وحكيا مشتعلا، ثم يرفع الواقع إلى مرتقى الرمز، والإنجاز الأدبي. لذلك قال رولانْ بارْط : «من يتكلم في القصة ليس هو من يكتب في الحياة. ومن يكتب ليس هو من يوجد».
وإذا كانت قولة بارْط في حاجة إلى تفكيك وإظهار ما دامت تتصل ب «موت المؤلف» الرمزي، فإن جورج لوكاتش رائد المدرسة الماركسية الجمالية في بعدها الواقعي يقول عن العلاقة الجدلية بين الواقع والأدب كما تتحقق في الأدب، وأشكال الإبداع المكرسة للواقع والمجتمع، والتي وُصِمَ بَعْضُهَا ب «الأدب المنجمي»، على غرار ما وُصِمَت به رواية إميل زولا الذائعة «جِرْمِنَال germinal»، يقول لوكاتش موضحا هذه العلاقة، والتي تتبدى ساطعة في عمل محمد بنعلي : «هناك مستويان من الوعي بالواقع : مستوى الرؤية المباشرة والتي تقابل سطح الواقع، والرؤية غير المباشرة والتي تقابل جوهره، ولكي يصبح الأدب أدبا، لابد من الانتقال من الرؤية المباشرة إلى الرؤية غير المباشرة، وهذا الانتقال يتم بوساطة اللغة. والعلاقة بين الوعي، والحقيقة الاجتماعية، هي علاقة جدلية معقدة».
وهذا معناه أن الرؤية المباشرة للواقع، والواقع، هنا، هو واقع العمال، والاستغلال، والظروف المخزية، والشروط الوحشية اللاإنسانية التي يخضعون لها، والتي نجحت الرواية في نقلها، ونقل أدواتها وآلياتها الموظفة لتأبيدها، وتداعياتها، و ما ترتب عنها من إصابة أطفال أبرياء، منهم من لقي حتفه طفلا نتيجة الإهمال والعجز، وافتقار المدينة إلى الحد الأدنى من التجهيزات الطبية، والبنى التحتية المواتية، ومنهم من ضربه الكساح، وأقعده عن العمل والاندماج، ومنهم من انْتَهَبهُ التسول، وإراقة ماء الوجه. ومعناه أن الرؤية غير المباشرة هي ما ينجزه الأدب، ويخطه المجاز، وتبنيه الاستعارة والحلم، والتخييل، إذ اللغة الأدبية والفنية، مفتاح الوجود، ومدخل إلى تسميته وترميزه، وخلق بديله بنشدان الأجمل، وتوخي إقرار الكرامة، ومعانقة الحلم. وطبيعي، والحالة هذه، أن تكون لغة الأدب لغة مسبوكة منتقاة إذا كانت الرؤية المباشرة تقوم على لغة بسيطة، تواصلية وعفوية معطاة.
وفي الأخير أقول : إن «رحلة العطش» هي سيرة مكان، وسيرة إنسان بالجمع والإفراد، بالجمع، حين تتقصد الساكنة المتروكة لمصيرها الأسود الفاجع. وبالإفراد، حين تركز على العمال كطبقة عانت القهر والاستغلال، والموت اليومي، الموت البطيء، وعلى ذي الحاجة المتروك للغبار والشفقة، واللامبالاة والنسيان.
المكان هو ما كان، وما فُعِلَ به، وما صار إليه الآن من إجهاز تام – وفي واضحة النهار، على مجده العمالي، وتساكن أقلياته التي حجت إليه من كل فج وصوب، وصنعت تاريخ وقدر المدينة العمالية التي حَلَّقَ «شَرْبُونها» وإنسانها في العالم، من دون أن يحظى الإنسان العامل بعامة، بشيء من الاعتراف ونَزْرٍ من الاعتبار، وقليلٍ من الإكبار ورد الجميل إن لم يكن له، وقد وُورِيَ جُلُّهُ التراب، فلِذريته التي تتأرجح بين ماض مُغْتال، أو يحاولون اغتياله بالمَرَّة، وحاضرٍ أغبش مترنح، ومستقبل غامض مقتلع، وغائم العلاقات والسمات.
لقد نجحت الرواية في قراءة واقع جرادة البسيط والمركب، وواقع آلامها وأحلامها المجهضة، وبالتلازم، واقع شخوصها وأبطالها، أبطال الفحم والغبار والسيليكوز، والسواد العام، والإعاقة المقدورة والمقدرة، والظلم المزدوج. ونجحت في طرح مخاوف وهواجس، ومطامح ذوي الإعاقة من خلال «صابر» و»فاطمة»، صابر الذي لم يَتَسَمَّ فنيا كذلك، عبثا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.