صدر عن دار إفريقيا الشرق كتابٌ بعنوان المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، من تأليف الأستاذ محمد العمري. وهو من الحجم الكبير (408 صفحات). جمع فيه المؤلف بين عرض الأسس الابستمولوجية للبلاغة العامة وبين نقد البلاغة المختزلة المهيمنة على التدريس. وقد قدم الباحث كتابه بمقدمة مركزة تغني في بيان أهمية الكتاب، أسفله بعض ما ورد فيها: ««المحاضرة» و»المناظرة» طريقتان في معالجة المعرفة: الأولى تؤسِّسُها بتقديم المفاهيم والأنساق، والثانية تُحصِّنها بدفع الشُّبهات ومقاومة جاذبية المعرفة المترسِّخة المناوئة لكل جديد. والمفروض في المناظرة، زيادة على ذلك، أن تساهمَ في تعميقٍ المعرفة وتوسيع آفاقها. فالتأسيسُ، في مجال الإنسانيات، يحتاج دائما إلى التحصين لمقاومة النكوص، والتحصين يحتاج إلى التأسيس لتأهيل المتلقينَ غيرِ المُستوعبين للجديد. وقد سلكنا في أعمالنا الأكاديمية السابقة طريقَ التقرير والمحاضرة: نُقدمُ المفاهيمَ والأنساقَ دون اهتمام صريح بالمخالف، أو المتقاعس المعادي للجديد، إلا نادراً. ثم ظهرتْ الحاجةُ لمناجزةِ النكوص والتزييف المتناميين في مجال البحث البلاغي، فاغْتَنمْنا فرصةَ تَوفُّر مَتْن من النصوص المناوئة للبلاغة العامة الجديدة، وجعلناهُ مناسبة لتحقيق ثلاثة مطالب ملحة: المطلب الأولُ: التعريف بالبلاغة العامة من خلال بسط أصلها الإبستمُلوجي (الاحتمال والتأثير)، وإجرائها التطبيقي (الاختيار)، ومنزعها الإنجازي (الغرابة التخييلية، والمناسبة التداولية). فالبلاغة مبنية على «الادعاء»: اِدعاء الصدق مع احتمال الكذب، وادعاء الكذب (الخيال) مع احتمال الصدق. وقد قال القدماء: «أعذبُ الشعر أكذبُه»، واعتمادا على المأثور من كلام الرسول (ص): «إن من البيان لسحرا»،ٍ نضيفُ: وَ»أعذب الخطابة أكذبُها»، أي تلك التي تُعطل الكفاءة النقدية، وتَبني القصورَ من الرمال. ومع بسْط هذا الأصل وتحكيكه مُحاضَرةً ومناظَرةً قدَّمنا شبكةً المصطلحات الضرورية لتصور بلاغة عامة. وقد كان غيابُ هذه الشبكة نتيجةً لغياب تصورٍ لخريطة نصية، ولا طريق للتفاهم في غياب هذين المعطيين: خريطة نصية وشبكة مصطلحية توضعُ فوقَها وتبرز معالمها، وقد رسمنا هذه المعالم. المطلبُ الثاني: تصحيحُ الأخطاء الناتجة عن محاولة فهم البلاغة العربية القديمة كلها انطلاقا من التصور الضيق الذي تتيحه البلاغة المختزَلة التي نجترُّها إلى اليوم. عَبَثٌ محاولةُ رؤية الجرجاني والجاحظ وقدامة وابن المعتز وأبو حيان وحازم من خلال مِنظار القزويني والدسوقي وغيرهما من شراح تلخيص المفتاح! فقد أَهْدَرتْ البلاغةُ المختزلةُ البُعْدَ التَّخييليَّ للإنشاء مُحكِّمةً المقامَ الخطابيَّ الضيقَ، وأهدَرتِ التأدبَ لصالحِ التكسبِ مُكسِّرة بذلك النسق البلاغي عند الجرجاني والجاحظ وغيرهما. وقد تجمعتْ هذه الأعطاب وغيرُها في المتن الذي حاورناه في هذا الكتاب، فأغنانا عن البحث عنها خارجه. المطلبُ الثالثُ: كشفُ أساليبِ المغالطة المستعملة في تبرير مفاهيم الاختزال ودعوى الاضطرار الكامنة وراءَ تَألِيَّةِ «المقام» وإقصاء التخييل. يمكن إجمالُ مُغالَطاتِ المتن في الحَيْدَة والعِندية والعنادية مُشخَّصةً في عدة أساليب، منها: 1 - «الشخصنة»، أي ترك القضيةِ موضوعِ النزاعِ ومهاجمة الشخص المناظِر. عالجناها في فصل خاص بعنوان «المحاكمة»، وقد أخرجناها إخراجا تخييليا أفلاطونيا بالمعنيين. ثم اكتفينا في معاقبتها في النقد التفصيلي بالقليل من الاستخفاف الساخر، أو بإبراز مناط الصفة بإرجاعها إلى مصدرها. 2 - صناعة «رجل القش»، أي ترك موضوع الاعتراض والخوضُ في موضوع آخر غير مطروح للنقاش، أو القيام ببتر كلام الخصم ليسهل الإجهاز عليه...الخ. 3 - وتصل العناديةُ مداها الأقصى حين يُقْلبُ المعنى قَلْبا ترفضُه اللغةُ العربية، ويرفضه السياق النصي، ويرفضه السياق المعرفي. ولذلك وثَّقنا هذه التجاوزات المنهاجية، وسجلناها وحفظناها لصاحبها بعبارات خاصة تدل عليها، سميناها غزوات لكثرة ما أعَدَّ لها صاحبُها من عَدَدٍ وعُدَدٍ، وما قَرَعَ في ساحتها من طبول، وأثار من نَقْع. منها: غزوة ما فَهِمَه، وغزوة أو، وغزوة تبدأ، ومناوشة ما رأينا...الخ. هذا الكتابُ مكونٌ من ثلاثة أقسام.:طابعُ القسم الأول، بفصليه، محاضَرةٌ تناولتِ السياقَ التاريخيَّ والمعطياتِ العلميةَ، وطابعُ القسم الثاني، بفصليه، مناظَرةٌ تناولتِ النقد المَوْضِعي والنقد المنهاجي الأخلاقي، وطابع القسم الثالث، بفصوله الأربعة، مناظرة تفصيلية غرضها كشفُ أساليب المغالطة واستدراك الأخطاء العلمية وتصحيح الرؤية. قلنا «طابعه» لأن المحاضرة والمناظرة متداخلتان في الكتاب بقوة، خاصة في القسمين الثاني والثالث، في حين غلبت المحاضرة على الأول.».