«هذا ما تبقى: حفنة أوراق محترقة صور هنا وهناك» دنيا ميخائيل الوترة الأولى لو لم تكن أنامله عاشقة لأوتار (الكنبري )، لكانت مجنونة بالبيانو كما أصابع (لوليتا) واسيني لعرج، ولو لم يكن مغني شعب، لكان عازف موسيقى الجاز في شوارع الهارليم، هذا هو العربي المعروف ب(عروب)، رجل بني لأن (عظمه) جنوبي من الصحراء تماما، ولأنه شعبي حتى النخاع، انتهى به الزمن المغربي من فنان وذاكرة غنائية وطنية، إلى رجل في هوامش الهامش يصنع «الطواقي»، يبيع الحلوى لأطفال زنقة وهران، وسكن في بيت داخل بيت، وسبحانك يا وطني. با (عروب)، من مواليد مدينة خنيفرة، الزيانية، المقاومة، التاريخية، الهامشية (كذا)، والحاصل في الكلام، هذه حكاية أخرى، و «إيتما ووال ». با (عروب) من مواليد 1951 والله أعلم، الأب اسمه سي عبدا لسلام، وأجمل الأمهات سميت بلالة عيشة، ومسقط الرأس حي شعبي، أمازيغي و يعربي يدعى «مراح حمو عمر» ، في أحضان هذا الحي تعب (با عروب الصغيور) من البلي، من الترمبية، من العد والقفز، ومن (كنبري) كان يصنع من عود خشبي وعلبة مبيد للحشرات، ويشرع في الدندنة بمعية أبناء عمومته جوقا من تمارين الأوتار، والنتيجة سلخ سي عبدا لسلام لجسد (عروب الصغير). الوترة الثانية تنتقل العائلة لزنقة فرعون بحي (تيعالين) بخنيفرة دائما، واستمر الشغب، والدندنة، ولعب الأصابع خلسة، لكن بعد انتهاء حصة القرآن بمسجد مولاي الطاهر، ولا شيء غير آيات الله وعصوات عصا سي علي الفقيه الورع والتقي. ثم ... يسجل با(عروب) بمدرسة دور الشيوخ (تيدارت إيزيان) سابقا، ثم المدرسية المركزية (ابن الوليد) حاليا، و لاشيء بقي مكتوبا في ذاكرة هذا الرجل البسيط، سوى اهتمام الفرنسيين بأطفال المدرسة : لا ضرب، لا تهديد، سوى معلما كآدم، معلمة كحواء، كذلك توزيع الملابس والأقلام والدفاتر المدرسية، ومطعم كان يشبعنا خبزا، جبنا، تمرا، سمكا معلبا نحن أبناء الفقراء، نستريح ثم نستأنف الدراسة. و... يترك (باعروب) المدرسة، و... ينسى البال سبب هذه المغادرة لمقعده الدراسي، المهم، أنه لم يعد ممدرسا وعن طيب خاطر، لكن بقيت صورة المدرسة الأنيقة، المعلم الأنيق، الحارس الأنيق، والفصول أنيقة، ومدير لا يتكلم غير لغة الفرنسيس والعرب والأمازيغ، ويسلم عليه الجميع بخشوع. الوترة الثالثة (باعروب) الآن عامل بمعمل (تعيلالين) للزليج رفقة صديقه الدائم والحقيقي المرحوم (محمد رويشة)، المعمل في ملكية (موحا وحوسا)، والمبلغ كل سبت هو مائة وستون ريالا. هذه الريالات فيها الخير والبركة، يقتسمها مع العائلة، وما تبقى التي يفتح له باب السينما، الجلوس بالمقهى وقليلا من الكماليات، و.. بعد سنة من روائح الإسمنت والصباغة، وتعب السواعد من الماكينة، يتدحرج الزمن ويصبح (باعروب) مساعدا كهربائيا. تساوقا مع هذه الأيام البعيدة والفقيرة، كانت أصابع هذا الرجل البني مولعة بأوتار آلة الكنبري، أوتار (با أحمد الملقب بالويسكي)، حمو يزيد، بوزكري، أحيانا كان ينخرط في جلساتهم ويصغي بشغف لموسيقاهم الوترية، وأخرى يقتفي أوتارهم، يسابق المسافات، ويتابع سكرة (الكنبري) في عرس ما من أعراس الأمازيغ . وحين أمسى لآلة الكنبري منازل في قلب (باعروب)، يؤسس فرقة ويتكل على الإيقاع والرقص، ثم يدع الزمن يسير. من أربع نساء و«جوج» دراري «كانت تشكيلة الفرقة، يقول (باعروب) بابتسامة خجولة، النساء للرقص والغناء، محمد (الدماغ) وهشام للقبض على الإيقاع . الوترة الرابعة لصناعة (الكنبري) حكايات صغيرة وخفيفة كما الفراشات، تبدأ بالانتقال إلى مدينة (أزرو) لشراء الأوتار أولا، ثم اللجوء للمرحوم (البزيوي) هذه الذاكرة التي ياماكانت تخبئ من تفاصيل وأسرار هذه الآلة الوترية، وقد يركب (باعروب) الحافلة إلى (تيغسالين) لصانع كان هناك وسقط اسمه سهوا من ألبوم الذكريات، لكنه كان فنانا بارعا إيقاعا ووترا. في الذاكرة بعيدا، يلقي (باعروب) القبض على أول سهرة أحياها ، كانت خراج خنيفرة وبمدينة الولي الصالح (مولاي بوعزة) الذي يقال أن تربته حمراء ، ويسكن الجبال كما الطيور. كان حينها يردد بإتقان أغاني شيخ الأغنية الشعبية الأمازيغية (حمو واليازيد) من قبيل (آوا ربي مايتعنيت أيول)، وفي بدايات السبعينيات كانت له أول سهرة في الإذاعة والتلفزة المغربية بمساعدة عبدا لرحمان ملين الذي كان شقيه يشتغل طبيبا آنذاك بخنيفرة ، كانت السهرة رمضانية، كانت من تقديم الفنان (المزكلدي)، ولأنها بثت مباشرة، فلم يتمكن (باعروب) من متابعتها وكان يود ومازال يود. الوترة الخامسة الأستوديو يربح، الأستوديو يوثق الذاكرة وبثمن بخس، ودخل (باعروب) تجربة تسجيل ذاكرته المحلية والوطنية، البداية كانت مع اسطوانات (ساخي ديسك) بكازا بلانكا، ثم ثانيا مع (كاسيط فوركا) بالخميسات، ولم تكن التعويضات سوى بسيطة جدا، ولاتسمن ولا تغني من جوع، لكن هناك إشباع في المعنى، معنى الاحتفاظ بذاكرة تراثية، نكاية في البداية من الصفر. وتتابعت المشاركات و التوثيق السماعي والبصري مع الإذاعة الأمازيغية ثم برنامج «أرحال» و«تيفاوين»، ثم المشاركة في سيمفونية الكنبري بمسرح محمد الخامس وكان ل(باعروب)، المرحوم رويشة، ومغني شرف افتتاح شهية الحضور، وبعدها كانت المنافسة بين اثنين وعشرين مشاركا. هذه هي سيرة (باعروب)، البسيط كما الجمال، البني كما المساءات، الخجول كما الأطفال، والفقير كما لو أنه لم يكن فنانا، كما لو أنه لم يتحف جماهيرا، كما لو أنه ليس ذاكرة من الأغنية الشعبية الأمازيغية والعربية، وكما أنه ليس فنانا وبشهادة المولعين بموسيقى الأوتار. الوترة الأخيرة نعم الصنيع فعلت جمعية أنصار للثقافة بمدينة خنيفرة، حين كرمت هذا الفنان الشعبي الذي أكلت أصابعه أوتار الكنبري. نعم الصنيع لأنها انتشلته من النسيان، ثم تحسيسه بقيمته لدى الأجيال اللاحقة نكاية بالسهو. نعم الصنيع ولو أنه «على قد الحال»، بل ولا يسعنا سوى الصفيق لكل المبادرات هناك وهناك، مبادرات تكرم الذواكر الثقافية، وأخرى تنظم جوائز وندوات باسم أسماء شعرية، قصصية، وختاما، لن نترك ذاكرتنا وحيدة.