عن الحال والمآل والآن، وقد أفرزت الانتخابات الأخيرة (25 نونبر 2011) النتائج المعروفة والتي، حسب علمنا، لم يُطعن فيها، فهل يمكن القول بأننا قطعنا مع مرحلة الفساد الانتخابي ودخلنا مرحلة الاستحقاق الديمقراطي الذي سيؤهلنا إلى الدخول إلى مصاف الدول الديمقراطية الحقيقية ؟ سنكون سُذَّجا إذا اعتبرنا أننا "قطعنا الواد ونشفوا رجلينا". فنحن لا زلنا، في اعتقادي، في مرحلة، يمكن أن نطلق عليها مرحلة التبييض الديمقراطي للمشهد السياسي (وقد تأخذ هذه المرحلة وقتا لا يستهان به)، ذلك أن الساحة السياسية بها أحزاب حقيقة، اعتمدت على إمكانياتها الذاتية (المادية والمعنوية) من أجل فرض وجودها، وهناك أحزاب ما كان لها أن تحقق ما حققته، لولا تدخل الدولة لصالحها. والتبييض مصدر فعل بيَّض، أي جعل الشيء أبيض. وهذا الشيء قد يكون ماديا وقد يكون معنويا؛ وتبييضه يعني تنقيته مما علق به من شوائب. وتستعمل، عادة، كلمة تبييض، في المجال الاقتصادي، مقرونة بالأموال؛ فهي، إذن، جريمة من الجرائم المالية (جريمة تبييض أو غسل الأموال). والتبييض، في هذه الحالة، هو عبارة عن مجموعة من التقنيات تستعمل لإخفاء مصدر الثروة المكتسبة بطرق غير مشروعة، بهدف تغيير صفتها غير الشرعية وإدخالها ضمن النظام الشرعي حتى يتم استعمالها دون الخوف من المساءلة أو المتابعة. فالتبييض، إذن، هو عملية إخفاء؛ وإخفاء الشيء هو إقرار بعدم مشروعيته على الحالة الأصلية التي يوجد عليها. لذلك، يتم الاجتهاد من أجل تقديمه في صورة مغايرة، تضمن له الدخول ضمن الأشياء المشروعة. ما يهم في هذه العملية، إذن، هو البحث عن المشروعية. والباحث عن المشروعية هو، بالضرورة، فاقد لها وواع بأهميتها وبجدواها. لذلك، فهو يستعمل كل الوسائل التي من شأنها أن تمنحه ما يبحث عنه. وبحصوله على المشروعية، يكون قد محا من سجله، أو على الأقل يعتقد ذلك، كل ما هو مشين، أي غير مشروع. ولعل غياب شرعية المنشأ والوعي الشقي بهذا الغياب، هو ما يجعل كل الأحزاب الإدارية ترفض أن تنعت بهذا الوصف وتُنكر انتسابها للإدارة (أي للدولة)، وتدعي تجدرها الشعبي والديمقراطي، في محاولة يائسة لتحريف التاريخ بإنكار وقائع مادية ثابتة وإخفاء حقائق دامغة. ولتبييض صورتها، تلجأ هذه الأحزاب، على المستوى الذاتي، إلى استعمال نفس الأدوات التي تعتمد عليها الأحزاب الحقيقية التي تعبر عن حاجة مجتمعية (مؤتمرات، تنظيمات محلية، إقليمية وجهوية...)، قصد تسويق صورتها كأحزاب ديمقراطية. ولكون جرائدها، إن كان بعضها يتوفر على جرائد، لا تُقرأ في الغالب الأعم، فإنها تلجأ، من أجل نفس الهدف (تبييض الصورة)، إلى مستكتبين في بعض الصحف التي تدعي أنها مستقلة. وبما أن هذه الكيانات الحزبية قد أصبحت أمرا واقعا، تؤثث المشهد السياسي المغربي وتساهم فيه، ومنها من استطاعت أن تفرض نفسها كقوة سياسية لها وزنها، وغطت، بذلك، على جذورها "المخزنية"، وعلى أصلها الفاسد، فإننا نعتقد - بالرغم من اقتناعنا بأن ما بني على باطل، فهو باطل، كما تقول القاعدة العامة, في إمكانية تبييضها ديمقراطيا، وذلك عن طريق صناديق الاقتراع، في انتخابات نظيفة، حرة ونزيهة، تسمح بالقطع مع كل الأساليب التي ميعت الحياة السياسية ببلادنا. إن المرحلة حبلى بكثير من أسباب التوتر، ومصلحة الوطن تقتضي أن نطوي صفحة الماضي، لأنه لم يعد ممكنا تحميل هذا الوطن مزيدا من النكسات في مجال البناء الديمقراطي الذي تعرض لشتى أنواع التشويه والتلاعب. فهل يمكن اعتبار انتخابات 25 نونبر2011 (التي وفرت للمغرب- بالرغم مما يمكن أن يقال عنها من حيث استعمال المال واستمرار العزوف، وتشكيك بعض الجهات في صدقية نتائجها التي فاجأت حتى الحزب المتصدر لها، الخ- أول تناوب منبثق من صناديق الاقتراع) محطة انطلاق عملية تبييض ديمقراطي لما طبع المراحل السابقة من تجاوزات، قصد الشروع في بناء المستقبل على أسس سليمة وواضحة, إن ذلك متوقف على مدى استيعاب متطلبات المرحلة من قبل أطراف ثلاثة: الأحزاب الإدارية والأحزاب الديمقراطية والدولة. فمطلوب من كل جماعة اعتمدت على السلطة (أو "المخزن") لتأسيس حزب أو هيئة سياسية، ذات طابع ديني أو مدني، أو استفادت من ريع سياسي على شكل مقاعد برلمانية أو جماعية مزورة، أو نحو ذلك، أن تتحلى بالشجاعة الكافية لتعترف بماضيها وتعمل على الإقلاع عما ألفته من ممارسات مفسدة للحياة السياسية؛ ومطلوب، كذلك، من الأحزاب الديمقراطية التي قاومت الفساد الانتخابي وعانت من تبعاته، أن تبدي قدرا من التسامح ومن حسن النية الذي يجعلها تثق في قواعد اللعب مع خصوم خبرتهم جيدا وخبرت أساليبهم في الغش الذي بنوا عليه مواقعهم؛ كما أن ذلك يتوقف، أيضا، على وجود إرادة حقيقية لدى الدولة للعب دور الحكم المحايد والنزيه. وعلى العموم، فإنه يظهر، من خلال المواقف السياسية التي أوردناها في شأن التطبيع مع نتائج الفساد الانتخابي، وذلك بقبول التعامل مع مؤسساته المغشوشة، أن هذا الأمر ممكن، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى الجميع، دولة وأحزابا، لجعل الاحتكام إلى الشرعية الديمقراطية هو الفيصل. نعتقد أن الدستور الجديد، من خلال محتواه المتقدم، مقارنة بالدساتير السابقة، يعبر عن هذه الإرادة، بشكل من الأشكال، ويمنح إمكانية التحول إلى الديمقراطية التي تعطي للشرعية مدلولها الحقيقي وللمؤسسات المنتخبة قيمتها الفعلية. فربط المسؤولية بالمحاسبة لن يتأتى إلا من خلال فصل حقيقي للسلط ومن خلال مؤسسات ذات مصداقية. ومن حسنات دستور فاتح يوليو 2011، أنه وضع حدا لآفة الترحال السياسي الذي لعب دورا خطيرا في تمييع الحياة السياسية والحزبية؛ كما أنه، بالتنصيص صراحة على ضرورة اعتماد المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة، يصحح تلك الردة (بلغة الدكتور "محمد العماري") التي حدثت في سنة 2002،، ويعطي للمنافسة السياسية قيمتها ويعيد للأحزاب مكانتها الطبيعية، سواء كانت في الأغلبية أو المعارضة. لكن النصوص وحدها، مهما كانت قيمتها، لا تكفي. فالممارسة هي المحك الحقيقي للإرادات وللنوايا؛ وهي مجال لاختبار قدرة الفاعلين من عدمها على تمثل المصالح العليا للوطن؛ وهي، أيضا، الفارق بين أناس يفعلون ما يقولون (وفي الغالب، دون جعجعة إعلامية)، وبين آخرين يقولون، إعلاميا، ما لا يفعلون واقعيا وميدانيا . ولنا في شعار محاربة الفساد خير دليل على ما نقول. إن ما يعتمل، حاليا، في الساحة السياسية الوطنية من مواقف وما يتصادم فيها من مصالح وما تفرزه من وجوه تتصدر المشهد السياسي، لا يبعث على كثير من التفاؤل. وللتمثيل على ذلك، نكتفي بموقف حزبين ذوي مسارين مختلفين، لكن بجذور "مخزنية" مشتركة ومعلومة لدى المتتبعين، هما الآن على طرفي نقيض: الأول، مستفيد من رياح التغيير(دون أن يكون مساهما فيها) التي هبت على المنطقة العربية بفعل ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، يرأس الحكومة الحالية؛ والثاني، الذي كان يعد نفسه، بتوجيه من مؤسسه، لقيادة مرحلة ما بعد 2012، أطاحت به نفس الرياح وأرغمته على ممارسة المعارضة. لن نخوض في العلاقة المتوترة بين الحزبين وفي الصراع الدائر حاليا بينهما، والذي يفتقد أحيانا إلى الاحترام الذي يجب أن يكون متبادلا بين الخصوم السياسيين، ولن نتناول المواقف السياسية لكل منهما من القضايا التي تهم الوطن والمواطن. لن نهتم، هنا، إلا بخاصية واحدة يشتركان فيها، وهي إصرارهما على لعب دور الضحية في المسرح السياسي. لما ذا هذا الإصرار؟ يبدو ، حسب رأيي المتواضع، أن الهدف هو التغطية على شيء (أو أشياء) ما. بالطبع، قد يختلفان في الأشياء (أو في البعض منها) التي يريدان إخفاءها، انطلاقا من الموقع الذي يحتله كل واحد مهما. فالسيد "عبد الإله بنكيران"(رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية)، حين يقدم نفسه (وبالتالي حزبه) كضحية لمؤامرة، أبطالها التماسيح والعفاريت، فإنما يريد، من بين ما يريده، التغطية على عجزه عن الوفاء بشعاراته الانتخابية وعن عدم قدرته على تنفيذ برنامجه الحكومي وعن فشله في أول تمرين ديمقراطي، متعلق بتفعيل مقتضيات الدستور الجيد، اختبرت فيه قدرته على ممارسة اختصاصاته الدستورية، الخ. أما السيد "حكيم بنشماس"، رئيس المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة، فلم يجد، في توصيف خصوم حزبه، الذين يلقي عليهم مسؤولية كل المشاكل التي يعاني منها هذا الحزب، سوى مصطلح "الحزب السري" (الذي كانت تستعمله الأحزاب التقدمية لوصف الجهة التي كانت متحكمة في الوضع السياسي خلال سنوات الجمر والرصاص) الذي قال عنه بأنه "كان يريد الإجهاز عن حزب الأصالة والمعاصرة "وبأنه "متغلغل في الإدارة وفي الإعلام وفي المؤسسات العمومية"؛ لنقل: في الدولة ("باش تكمل الباهية"). إنني أتصور ابتسامة عريضة، مليئة بالسخرية ومحملة بكثير من الاستغراب، على شفاه كل المتتبعين والملاحظين (المحايدين والموضوعيين طبعا) الذين يعرفون حقيقة نشأة "البام"، التي يريد "بنشماس"(وقبله "إلياس العماري"الذي قال بأن هناك جهات تسخر المثقفين والإعلاميين للإجهاز على هذا الحزب) إخفاءها بمثل هذا القول. وهو، على كل حال، قول يذكرنا بما ذهب إليه فقيه الحزب الحاكم بكون الدولة المغربية مليئة بالملاحدة وأعداء الرحمان، الذين هم، بالضرورة، من منطوق الأستاذ "أحمد الريسوني، أعداء حزب العدالة والتنمية. وإذا أضفنا، إلى هذا المشهد، بعض الوجوه الرائجة إعلاميا والمثيرة للجدل، من أمثال "شباط" و"زيان" و"عرشان" و"الدرغني" و"المقرئ أبو زيد" و"الزمزمي" و"الفزازي" و"النهاري" و"الحدوشي" (واللائحة طويلة)، واستحضرنا، بهاجس ديمقراطي، واقع "اليسار المترامي الأطراف، المشتت كدقيق في يوم ريح"، أدركنا مصدر الكابوس الذي يريد أن يستيقظ منه الأخ"عبد الحميد جماهري" ، والذي، لا شك، أنه جاثم على صدر كل من هو مهووس بحب هذا الوطن ومغرم بتراثه الثقافي المتنوع ومنشغل بمستقبله الديمقراطي وبمشروعه المجتمعي الحداثي. ومع ذلك، وبالرغم من القتامة التي غلبت على المشهد السياسي الذي قدمناه، والتي لا تختلف كثيرا عن تلك التي يقدمها الوضع الاقتصادي والاجتماعي بفعل الفساد الاقتصادي والمالي والإداري وبفعل عوامل الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن نقط الضوء كثيرة، ومن شأنها أن تعزز التفاؤل الوطني بالمستقبل الديمقراطي لبلادنا. انظر "حزب الأصالة والمعاصرة والمشهد السياسي المغربي" لبشر بوشعيب، موقع"مرايا برس"، 17 يوليوز 2010، و" الجذور "المخزنية لحزب العدالة والتنمية المغربي" لفؤاد بالماضي، موقع "دنيا الرأي"، 24 شتنبر 2011، عمود "كسر الخاطر"، جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الخميس 13 شتنبر 2012.