وصل إلى بلادنا يوم أمس رئيس وزراء تركيا الطيب أردوغان، في زيارة تنفرد بسياقاتها السياسية والاقتصادية والجيواستراتيجية الخاصة. أردوغان، سليل الإمبراطورية العثمانية، يدخل المغرب، وهو المفتون بتاريخ بلاده، يعرف بأن الزحف العثماني لم يصل إلى بلاد المغرب الأقصى، في عنفوان السطوة العثمانية، ومركزها إسطنبول، والباب العالي. لقد دكت سنابك الخيل كل مواطن ومواقع الإسلام، ووقفت عند الحدود الشرقية لبلادنا، وهو ما أعطى المغرب، دوما هامشا واستقلالية كبرى إزاء الخلافة العثمانية. ولربما كان تأثير حريم السلطان، الذي يحكي عن مغامرات سليمان القانوني النسائية على مغاربة ومغربيات اليوم أكثر من تأثير سليمان القانوني نفسه على أجداهم وأجدادهن! فالقاموس السياسي واللغوي المتداول في بلادنا يخلو من التسميات والتصنيفات التركية التي سادت في بلاد الشرق الإسلامي، من مهندس باشا إلى الباي، مرورا بالحاكمدار .. الخ! لكن التجربة التركية السياسية الحالية، غير ذلك، على مستوى النخبة والتنخيب الجديد. فأردوغان الذي يقدم إلينا، لا يسعى إلى إعادة بناء خلافة العمامة، بقدر ما يريد أن تكون لبلاده قوة النموذج الذي يفتح الحقول السياسية ومصادر السلطة في دول العالم العربي، عموما ودول المغرب الكبير والشرق الإسلامي. أردوغان هو خليفة في بلاد يتعايش فيها الجيش والإسلاميون، في إطار تعددية سياسية تنبيء بقدرة التيار الديني على التعايش مع أنماط الترتيب الديموقراطي للسلطة واقتسامها. وقد تم تسويق هذه الفكرة واعتمادها في المختبر الكبير المسمى دول الربيع العربي: نلاحظ بقدرة التعايش بين الجيش والنهضة في تونس، بل وتحالفها في إسقاط نظام زين العابدين بن علي، ونتابع التعايش الحذر بين الجيش والسلطة الدينية للرئيس مرسي، في مصر، وتعاونهما من أجل إسقاط نظام مبارك ومحاكمته من بعد. وقد تكون، في القادم من الأيام، عملية تسويقية أخرى، في منطق ونطاق آخر للتعايش بين العسكر والإسلام الحزبي في .. الجزائر. وهي فرضية دافع عنها الضابط الجزائري السامي، المتقاعد محمد شفيق مصباح، عندما كتب منذ يومين أو ثلاثة أن «الولاياتالمتحدة تعمل حاليا على الحفاظ على شراكة استراتيجية مع مصالح المخابرات ومع الجيش، وتحاول اليوم من أجل إقامة جسر للتوافق بين شركائهم المعروفين اليوم وبين الذين تتوقعهم غدا، أي زعماء تيارإسلامي موحد وقوي»! وأردوغان، هو الذي صب الكثير من الماء، أيضا، في طاحونه التيار الإسلامي في الدول التي يزورها، إذ مازلنا نذكر أن هذه القوى رسملت مواقفه المعلنة وخبطاته المناهضة لإسرائيل، لا سيما في دافوس ومحاولته فك حصار غزة، في الانتخابات التي مرت، وإن نسيت من بعد أنه لم يغير قيد أنملة من تحالفه الاستراتيجي مع إسرائيل. وقد تكون تركيا ذاتها من تقدم النموذج في العلاقة مع تل أبيب: فمصر وتونس والتيارات الداعمة لها، لم تعد النظر في كل الاتفاقيات التي تربطها بالدول العربية، رغم شعار المناهضة والعداء! أردوغان، القادم اليوم إلينا، ترك وراءه نيران قوية تشتعل في البلاد، واجهها بخطاب التحدي، (إذا جمعتم 100 ألف متظاهر سأجمع مليونا)، الذي لا يمكن إلا أن يقلق الشركاء الذين يتعامل معهم. والمغرب، حاليا، تربطه علاقة توافق استراتيجي نسبيا، تمثلت في الوقوف نفس الموقف من نظام القذافي، ثم من نظام الأسد، والتواجد إلى جانب نظام تركيا في ما يتعلق بالمعارك الدائرة في سوريا، ومساندته للشعب السوري. والتغيرات القادمة قد تفرض على البلدين إعادة نظر مشتركة في منطق التعامل. ويبقى الباب مفتوحا بالنسبة لحدود التلاقي بين البلدين في النموذج الذي تسعى حكومة أردوغان تنصيبه، نموذج قائم على نظام أخلاقوي، وتوسيع دائرة التفسير الراديكالي للسلوك المدني للشعب التركي وتوسيع دائرة التحريم، بناء على التأويل السياسي للتدين .. الخ. ولا شك، أن الرأي العام سيتابع سلوك المسؤولين المغاربة ليحدد درجة التوافق والتميز المطلوبين هنا!