في مقالته الطويلة والشهيرة (مهمة الشعر)، خلص إيليوت إلى القول، إن مهمة الشعر الأساسية، أن يصون لغته الشعرية. واعتقد بدءا وعطفا على هذه القولة الإيليوتية، أن مهمة النقد الأساسية، أن يصون لغته النقدية، إحكاما وضبطا ودقة منهجية وحصانة نقدية. وبعبارة محددة، فإن مهمة النقد الأساسية، أن يكون »نقدا« critique. واسمحوا لي أيها الإخوة أن أعود بكم إلى الأصل الجيني المعروف لكلمة (نقد في المعاجم العربية. النقد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، كما أنشد سبويه تنفي يداها الحصى في هاجرة. نفي الدنانير تنقاد الصياريف نقدا الشيء نقدا نقره ليختبره أو ليميز جيده من رديئه. وقد أتى علينا حين طويل من الدهر، غدا فيه النقد الأدبي - العربي مغربا ومشرقا، وبخاصة في المرحلة البنيوية والشكلية، نقدا خاليا وعاريا في النقدCritique، نقدا وصفيا وشكليا.. يختبر قدراته المنهجية الحداثية، ويعيد كتابة النص، يفكك أجزاءه وعناصره، ثم يعيدها إلي أماكنها أو يتركها لحما على وضم بما أفضى إلى نقد شكلاني طوطولوجي، يمسح سطوح النصوص ويعيد انتاج طرائق اشتغالها دون أن يسبر أغوارها وأسرارها الساخنة، ويضعها على محك النقد والمساءلة. بما جعل النصوص متساوية في الميزان، مماثلة في القيمة. لا يبين جيدها من رديئها وصالحها من طالحها. وكأنها بيض في سلة واحدة. والنقد هنا، للإشارة ليس بدلالة إطلاقية وقطعية، بل هو ضروب وأنواع. هو نقود إذا صحت العبارة. فهناك النقد الأكاديمي والنقد الاحترافي والنقد الصحفي. واللحمة المشتركة بين هذه النقود أو الأنواع النقدية، هو النقد. وكل نوع يسلك إليه طريقه وكل الطرق تؤدي إلى النقد وإلى النص المنقود المقروء. وحديثي هنا يدور بشكل خاص حول النقد الاحترافي والصحفي، فهما أكثر عضوية، وأكثر لصوقا وعلوقا بالمشهد الثقافي والأدبي- الإمبريقي . أما النقد الأكاديمي، فمجاله الحيوي هو الجامعة .وطقوسه لذلك اكاديمية -معرفية في الدرجة الأولى مع الإشارة إلى أن التقييم النقدي -العلمي الرصين يبقى من مهامه الأساسية أيضا. فالجامعة حارسة القيم الثقافية والرمزية. ومع الاشارة أيضا، إلى أن معظم النقاد الاحترافيين وبخاصة في المشهد النقدي المغربي هم جامعيون أو خريجو جامعة. وأظن أن الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة لمعظم النقاد العرب. فالجامعة كانت و لا تزال ورشا ومحكا معرفيا لأجيال النقاد. وهذا طبعا، في أيام العز الجامعي. ومن ثم تضيق المسافة وتتماهى أحيانا بين النقد الجامعي والنقد الاحترافي. ولا ننسى أن كبار النقاد الجامعيين في الشرق والغرب، نشروا نقدهم في الصحف. والنقد الأدبي من بعد، مدار هذا الحديث وهذا اللقاء، فاعلية أدبية - علمية هي وسط بين الأدب والعلم، ليس هو بالأدب الخالص ولا بالعلم الخالص، إنه في منزلة بين المنزلتين. ومهما حاول النقد أن يتعلمن ويتعقلن يبقى شوقا يائسا إلى العلم، كما قال أمبرتو- إيكو. لأنه ببساطة يشتغل على نصوص وجدانية ومجازية تشم أحيانا ولا تفرك كعلل النحويين. ومع ذلك، فهو متقاطع- ومتلاحم مع علوم عدة: علم اللغة - علم النفس - علم الاجتماع - التاريخ - الفلسفة.. إلى جانب أحدث العلوم التطبيقية، لمن يوغلون في مجرة النقد. لكن تبقى المهمة الأساسية للنقد ،عودا على بدء، هي نقد النصوص وتقييمها وروزها. ومن صحح مقياسا في اللغة والأدب، فقد صحح مقياسا في الحياة. كما قال العقاد: إن عرام الحراك الإبداعي العربي شعرا ونثرا وما بينهما من أمور متشابهات، يحتاج إلى غربلة نقدية جريئة وحاسمة ودائمة. يحتاج إلى غربال جديد، كغربال نعيمة، صونا لحرمة الإبداع وثوابته، وحرمة اللغة العربية وثوابتها. نحن مع حرية الإبداع، نعم. لكن مشفوعة بحرمته. وتشهد الساحة الابداعية - العربية الآن، رواج ظاهرتين أدبيتين غامرتين، تسللتا على حين غفلة من الأنظار، أنظار النقاد بشكل خاص، وهما قصيدة النثر القصيرة (النثيرة) والقصة القصيرة جدا، نظرا لخفتهما وسهولة مأخذهما. ونحن نرحب طبعا بكل جديد. فالإبداع ضد الرتوب عملا بالشعار :»دع مئة زهرة تتفتح.» لكن شريطة أن تكوين الزهور يانعة طبيعية لا اصطناعية خلاسية. وقد عم سيل هاتين الظاهرتين الأدبيتين من المحيط إلى الخليج، وبخاصة لدى أجيال الشباب الذين هم دائما في عجلة من أمرهم، حتى اختلطت الزبدة بالزبد. من هنا ضرورة حضور النقد كمسائل ومراجع. كرقيب وحسيب لا بأس من ان يحصي الشاذة والفاذة بقدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلا. وتلك في نظري في مقدمة المهام المنوطة بالنقد العربي، في راهننا العربي الشقي الواقع في مهب الرياح. واظن اننا جميعا، معشر المهمومين بسؤال النقد والادب، نتحمل تبعات هذا التراخي النقدي. وهنا يسلمنا الى سؤال طالما تردد صداه، ويتعلق بازمة النقد العربي الراهن.وازعم ان غياب النقد عن النقد، اضافة الى غياب الواقعية والالتزام عن النقد وقلة احتفاله بمضامين وموضوعات وافكار الادب، من بعض اسباب ازمة النقد الادبي. وان كنت أرى أن هذه الأزمة مبالغ فيها. اذ يجب ان لا ننظر فقط الى النصف الفارغ، من الكأس، فثمة نصف آخر ملآن. ورغم كل الهنات والعثرات والمآخذ، فإن النقد العربي العربي حاضر في المشهد، ان لم اقل في قلب المشهد. وكلمة الازمة ان سلمنا بها، لا تخيفنا او تعشي أبصارنا، فهي علامة على معاناة ومخاض. علامة على امتحان عسير لابد منه للخروج إلى ماهو انفع وأنجع. وكلمة النقد critique في اللاتينية قريبة من كلمة الازمة crise حتى قيل إن النقد هو تأزيم الأشياء ووصفها في حالة قلق وشك وأزمة critique c est mettre en crise والعالم العربي برمته يعيش ازمة حادة او متوالية ازمات وعلى كافة المستويات. وليس النقد الادبي والابداع الادبي، سوى بحل رمزي لهذه الازمة العامة والطامة. واشتدي ازمة تنفرجي. إن ثمة جيلا جديدا من النقاد العرب الآن، له طموحاته وفتوحاته المشروعة والمشهودة، تأليفا وانتاجا، ولقاءات وندوات. صحيح انه لا يرقى إلى جيل الكبار الذين ملأوا السمع والبصر.. ولم ينحت بعد لنفسه هوية او اتجاها او مدرسة، لكنه ماض في طريق النقد الجديدة. والطريق تصنعها الأقدام. وثمة اخيرا، سؤال حساس يثور كلما ثار الحديث عن النقد العربي. هل هناك بوادر أو ما يشبه البوادر، لنظرية نقدية عربية؟! هل هناك سعي لإعادة بناء الإسم العربي الجريح، حسب تعبير عبد الكبير الخطيبي؟! في حوار مع الناقد والباحث المصري د. محمد عبد المطلب، وهو أحد الدعاة إلى تأسيس واعتماد نظرية عربية في النقد، يقول. - مثل هذه الملاحظات كانت وراء دعوتي لضرورة وجود ثلاث قراءات أساسية، لكي نتمكن من إنجاز ما يمكن أن نسميه (نظرية عربية في النقد الأدبي). وقد أسميت القراءة الأولى (القراءة الاستحضارية)، وهي تسعى إلى استحضار الوافد الغربي من منابعه البعيدة والقريبة، لنتوقف عند آخر منجزاته اللغوية. وأسميت القراءة الثانية (القراءة الاسترجاعية)، حيث تقوم على الرجوع إلى الموروث النقدي العربي على نحو انتقائي، لنرصد ظواهره وإجراءاته في قمة نضجها، وتلاحقها في مناطقها المبعثرة، فتجمع شتاتها وتحاول أن تشكل منها إطارا قريبا من المفهوم النظري العام. وأسميت القراءة الثالثة (القراءة الاستنتاجية )،وتقوم علي الإفادة المخلصة المحايدة من القراءتين السابقتين، وتجمع بينهما على نحو توفيقي لا تلفيقي). ها نحن أولا مجددا، أمام ذلك الحل التوفيقي - النهضوي بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والتجديد، بين الأنا والآخر، لاجتراح طريق ثالثة، لا شرقية ولا غربية، تقيم أود المعادلة الصعبة، وتضع النقد العربي المتطاوح يمنة ويسرة، في نصابه الطبيعي ومسكنه المناسب. لكن من يشق لنا هذه الطريق الثالثة الوعرة؟! تلك هي مشكلة النقد الأدبي العربي. بل تلك هي مشكلة المجتمع العربي بعامة، في أزمنته الحديثة الصعبة، حيث يتناوح بين حداثة مجلوبة وأصالة معطوبة.