خصصت مجلة «زمان» المغربية الرصينة،(النسخة الفرنسية) عددها لشهر أكتوبر الجاري لموضوعة «الجسد في كل تجلياته». كيف ينظر المغاربة لأجسادهم، هل كان أسلافنا ينظرون للجسد نفس نظرة معاصرينا، ما هي التمثلات المجتمعية للجسد، بين النظرة الدينية و التقليدية و الإيروسية؟. و خدمة لقرائنا العرب، انتقينا مقالا للباحث سامي لخماري، حول الحلي و دلالاتها الرمزية لدى القبائل المغربية .. جسد من لحم و من ذهب منذ آلاف السنين، لجأ سكان المغرب للحلي. وظائف الحلي لا تتوقف فقط على التجميل بل أصبحت علامة ثمينة للدلالة على الهوية. هنا نظرة على تاريخ الجسد المجَمل بالحلي. حين يفرض الطابو رقابته على تعبيرات الجسد، فإن للمرأة أكثر من حيلة في جعبتها لتجاوزه. فليس إذن صدفة أن تكون الحلي واحدة من المصنوعات الأكثر قدما لدى الإنسانية. فاللقى التي عثر عليها الأركيولوجيون من هذه المصوغات يعود أقدمها إلى عشرات الآلاف من السنين و كانت في البداية عبارة عن قواقع و عضام. و في المغرب لم تشذ نتائج الحفريات الأركيولوجية عن هذه القاعدة. فكثير من اللقى التي تم الكشف عنها في موقع سيدي عبد الرحمان بالدار البيضاء تتماهى مع الحلي. و يرى الأنتروبولوجيون أن استعمال المجتمعات للحلي يستجيب بصفة عامة إلى نفس المعايير. فالاختلاف عبر العالم ، يكون في الشكل الذي تأخذه هذه الحلي، كما أن المادة التي صنعت منها هذه الحلي تشكل مؤشرا جيدا على الوسط الذي يعيش فيه مجتمع معين. و هكذا فإن حليا من القواقع توحي بالقرب من البحر. كما أن وجود العاج يشير إلى واقع آخر و بيئة مليئة بالفيلة. و قد ظهرت الدقة في فن صياغة الحلي بشكل مبكر في المغرب و في المغرب العربي بشكل عام. فالشعوب الليبية القديمة (لقب أطلقه الإغريق على أمازيغ إفريقيا الشمالية) كانت تصنع مصوغات دقيقة. في هذه المرحلة، أصبحت مكانة الحلي مركزية في مسيرة المجتمع. إذ أنيطت بها كثير من الوظائف الأساسية. و أكثرها رسمية هي تلك المرتبطة بالسلطة السحرية التي تملكها هذه الأدوات. فباستخدامها كرُقية، تحمي هذه الحلي أعضاء القبيلة من كافة أشكال الشرور. كما أن التزين، بمواد نادرة و ثمينة، يعد مناسبة أيضا لتجميع الثروة المادية. و الحلية تصلح أيضا كعلامة للدلالة على الهوية، قادرة على الترميز لأصل و مكانة الفرد الذي يحملها. كما لا ينبغي نسيان الدور الأول لوجود الحلي و هو إبراز الجمال الجسدي. فبالرغم من تطور المعتقدات و العقليات ، فإن هذه الوظيفة الجمالية أساسية في مغرب الأمس كما هي في مغرب اليوم. و بطبيعة الحال فإن النساء هن من استخدمن هذه الرمزية. فأصبحت الحلي حديقتهن السرية بدون منازع. الحلي كعلامة هوية: «أرني حليك أقول لك من أنت»، بهذه الطريقة و منذ العصور القديمة، كان أفراد القبائل المغربية يعرفون بعضهم البعض.فمنذ القرن السادس عشر تقريبا، ظهر تياران مغربيان للحلي: فهناك الحلي ذات الصياغة الأمازيغية، التي نجدها بشكل كبير في الأطلس الكبير و في سوس منذ آلاف السنين. و مع انتشار الإسلام و ظهور التجمعات الحضرية، ظهرت الصياغة العربية للحلي أو الصياغة المدينية. لكن الاعتماد على هذه المصوغات للتحديد الإثني يبدو طريقا خاطئا، فداخل كل من التيارين ، توجد الكثير من الاختلافات، لدرجة أنك تجد هذه الاختلافات العديدة لدى قبيلتين متجاورتين. و مع ذلك فإن المواد المستخدمة لدى كل من هذين التيارين تختلف من واحد لآخر. فالفضة تعد من المعادن التي تمهر في صياغتها القبائل البربرية الأطلسية .و تتميز هذه الصياغة بضخامة حجم الحلي و المصوغات. فالصور الأولى للنساء البربريات المتزينات بحلي ثقيلة و سميكة شكلت موضوع إثارة في عالم بداية القرن العشرين. فالصياغة الأمازيغية تراهن أساسا على ضخامة الحلي ،على العكس من الحلي المدينية. و قد ظهرت نجاحات هذه الأخيرة مع الوصول الكثيف لليهود المطرودين من إسبانيا سنة 1492 ،و قد تميزت بأسلوبها و شكلها و حجمها. ففي أحياء اليهود بكل من فاس و مكناس و سلا، تميزت الصياغة بالدقة و المهارة. و هكذا فإن امرأة تحمل قرطين صغيرين من الذهب، تؤكد انتماءها لطبقة اجتماعية ثرية و مدينية. و هذه الطبقة غالبا ما تكون ذات أصول عربية أندلسية تنتمي للأرستقراطية المقربة من الأوساط المثقفة و من السلطة. و علاوة على وظيفته الهوياتية، فإن الحلي تحمل في حد ذاتها رموزا مشفرة، لا يستطيع تأويلها سوى المتمرسون بلغة الرموز هاته. لعبة مزدوجة: على عكس الثياب، فإن الحدود بين الحلي و الجسد تبدو واهية. و النساء تعرفن ذلك جيدا. فلدى الساكنة التقليدية، يشكل حمل الحلي ميلا جماليا للتميز و الخروج عن قيود الثياب المفروضة. فالمغربيات الخاضعات لنوع من الثياب يغطي جسد المرأة بالكامل تقريبا، يلجأن إلى إبراز حليهن. فالأنتروبولوجيون الذين اشتغلوا على المجتمعات البربرية بالمغرب، يتفقون على أن بعض الحلي تتخذ أشكالا إيروسية، و هكذا فإن حلية «تيزرزاي» الشهيرة المثلثة الشكل تتطابق مع شكل العضو الأنثوي. هذه الحمولة الحسية التي تسكن الحلي البربرية لم تغب عن فضول مستشرقي القرنين التاسع عشر و العشرين. فهؤلاء عكسوا في مؤلفاتهم افتتانا كبيرا بالرموز المليئة بالمفارقات التي تثقل الحلي النسائية. و هو ما شكل ملخصا كاملا للتصور النمطي حول المرأة المغربية، أي هذا المزيج الساحر بين الخضوع و الفتنة. و مع ذلك, فإن مظهرا من مظاهر الحلي المغربية قد فات التقاطه من طرف العين الفاحصة للمستكشفين الغربيين. ففن السحر متواجد في بعض الحلي. فكثير من هذه الدمالج أو الخلاخيل أو الأقراط أو الأحزمة أو غيرها، تتضمن عناصر للحماية و الوقاية من العين الشريرة أو السحر. فالمحظوظات اللواتي يحملن هذه الحلي يكن في حرز من الشرور. و لعل أشهر هذه الحروز هو «كف فاطمة»، التي أصبحت جالبة السعد الأكثر رواجا. عالم الحلي هو عالم النساء دون منازع، لكنهن لا يصغن الحلي بأنفسهن إلا نادرا، رغم تمكنهن من تفاصيله. و في أعين الرجال فإن قيمة أي حلية تتساوى مع ثمانة المادة المصنوعة منها. فحتى بداية الاستعمار، كانت الحلية الوحيدة التي يهتم بها الرجال هي الخنجر، الذي و إن كان مزينا بالأحجار الثمينة فإنه يظل وسيلة للقتل.