1 لم يكن الوجه الكُمَّثري ، سوى حفنة من ملامح َمرسومة بعناية على لوح وجه طفولي جميل . عيناه النضَّاختان بالكاد تطلان من محجريهما الصَّغير؛ فيرمق بهما أضواءَ شارع صفراءَ ، مدفونة في ضباب شفيف . فبين الحين و الآخر كانت تمتدُّ إليه يدٌ مكدودة ، لتعيد الغطاء إلى مكانه ، وتدفع عنه زفير القرِّ و الكزِّ . سُجوف الليل المدلهِّم تنزل شآبيبَ على دروب وطرقات ، مسْجورة برواد الفاست فوود أو بعض مرتادي الأكل السَّريعة . في ركن قصيٍّ من الشارع تتصاعد ، كالعادة ، أدخنة ذات روائحَ تملأ المكان . وفي الجانب الآخر ، تدفع ذات العباءَة الكحلية بلا كُمَّين ، زوجا مُقعدا فوق مِعْجلة ، يديرها بأناملَ مَسْحولة و مصلوبة ببردٍ ديسمبري قاس . فوق هذا الرُّكام المتختخ بوجع و أنين ، يجلس الكُمَّثري ، على هذا الجسد المشلول ، يتطلع من خلاله إلى وجوه عابرة ، فيوقع على سحنتها ابتسامات مدموغة بصورة للبطْر الطفولي المقيم . الشِّحاذة عنوان كبير … تمتد فيه الأيادي ؛ لتخفف من شدة الإملاق ، فيستتبعها وجه صغير بابتسامات يؤوب صداها بالأنين الوسنان . كانت المرأة ، من داخل العباءة الكحلية ، خَوْدا محمولا على هَوْدَج . تلمع فيها أطرافها كالتبر ، ويستقطرها خجل وحياء لا تعرف منبعه من ضيق اليد ، فتدفع المعجلة ؛ تطوف بها مداخلَ ومخارجَ مقاه ، كانت بالأمس ذكرى ذات شجون . كانت التي تجلس أمامي ، تنظر إلى صورة هذا الكمثري بعيون مائية وحسيرة ، تذرف دمعا ساخنا ،على صورة الفرح ، التي تغذي صفحة وجهه ، كلما مُدت يد سابغة بِنَشب وفير جادت به القلوب و الأفئدة . كيف ينظر إلينا ، ونحن أصنام مسحولة ؟ جلاميدُ صخور حطَّها السَّيل من عل . ذات العباءة الكحلية تنظر إلى الصُّحون ، التي لفظت آخر أنفاسها فوق طاولات فارغة من زبناءَ ، علَّها تعثر على ما تسدُّ به رمقها ورمق عائلة ، قطعها التسول و التحال . أفئدة رحيمة بأسرة طوَّحتها الشِّحاذة ُ. 2 توقف بعض الرذاذ ؛ ليفسح المكان لزفزفة وَسْنى . كانت الأفاريز المتدلاة ، تتراشق بهذا الهُبوب الناعس، عندما واصلت ذات العباءة الكحلية التردد على أمكنة وساحات منذورة للصَّقيع . أين فيك يا سماءُ ؟ وأين فيك ما تخبِّئينه من هذا القرَّ ، الذي يسْحل الأجساد المكدودة ، بدون رأفة و بدون تحنان ؟ أين فيك يا سماءُ ؟ وأين هذا الوجه الكمثري ؟ فالناسُ منازلُ في طبيعة مسجورة بالفقد والغياب ، استحضرت من خلال التي تجلس أمامي صورة ظلت تراودني بعريشها الممتد في الذاكرة والتاريخ . حملت سيارتي و بدأت أطوف أزقة و دروبا لأيامٍ و لياليَ طويلة ، أبحث عن الوجه الكمثري ، الذي هو وجهي ، و وجه التي تجلس أمامي ؛ و وجهك الذي تحتسي به قهوة الصباح في مقهى منذور للوشاية و النميمة . ابتلعته العتمة على حين غرة ؛ لأنني سُحلت كما سُحل الكمثري و الرجل المشلول والمرأة ذات العباءة الكُحلية .