مكتب التكوين المهني/شركة "أفريقيا".. الاحتفاء بالفوجين الرابع والخامس ل"تكوين المعل م" بالداخلة    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الخميس    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد منصور، الرجل ذو القبرين (19) : أحداث الريف سنة 1958 ورفض منصور البقاء عاملا على الحسيمة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 07 - 2019

تقول عنه زوجته، ورفيقة درب حياته، في رحلة عمر امتدت لأكثر من 70 سنة، السيدة فريدة آكاردي كالودجيرو منصور:
«لو سمح الله للملائكة أن تمشي في الأرض وتتزوج، لكان سي محمد منصور واحدا منها».
إنه المقاوم والوطني والمناضل التقدمي الراحل محمد منصور، الذي سنحاول هنا رسم ملامح سيرة حياته، بما استطعنا إليه سبيلا من وثائق ومعلومات وشهادات. فالرجل هرم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حكم عليه ب 3 إعدامات و مؤبدين في الإستعمار واعتقل وعذب في الإستقلال من أجل الكرامة والديمقراطية.
هو المساهم والمنفذ لأكبر عمليات المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي (عملية القطار السريع بين الدار البيضاء والجزائر يوم 7 نونبر 1953. وعملية المارشي سنطرال بالدار البيضاء يوم 24 دجنبر 1953)، أول عامل للحسيمة سنة 1957، وأول رئيس للغرفة التجارية بالدارالبيضاء سنة 1960.
محمد منصور، هرم، يصعب جديا الإحاطة بسيرته بالشكل المنصف تاريخيا، على الأقل لسببين:
أولهما أن الرجل كان صموتا جدا، يرفض بحزم، البوح أبدا بالكثير من التفاصيل الدقيقة كشهادة أمام التاريخ، بسبب من ثقافته السلوكية، التي ظلت تتأسس على أن ما كان يقوم به، كان يقوم به بنكران للذات من أجل الصالح العام.
ثانيهما طبيعة السرية التي حكمت عمله النضالي ضد الإستعمار وفي أجزاء كثيرة من زمن الإستقلال من أجل العدالة الإجتماعية ودولة الحق والقانون والحريات.
وإذا كانت هناك من خصلة ظلت مميزة عند محمد منصور فهي خصلة الوفاء. الوفاء لرفاق الطريق الخلص، الوفاء للفكرة الوطنية، الوفاء لقرار نظافة اليد، الوفاء للمبدئي في العلائق والمسؤوليات، مما يترجم بعضا من عناوين الجيل الذي ينتمي إليه رحمه الله، الذي يتصالح لديه الإلتزام السياسي مع السقف الوطني، وأن السياسة ليست مجالا لبروز الذات، بل مجالا لتطوير الجماعة في أفق بناء، تقدمي وحداثي (الحداثة هنا هي في تلازم المسؤولية بين الحق والواجب).
محمد منصور، ستكتب عنه كل صحف فرنسا الإستعمارية (ونقلت صدى ذلك صحف باريس أيضا)، يوم وقف أمام القاضي العسكري بالمحكمة العسكرية بالدار البيضاء سنة 1954، كي يفند التهم الموجهة إليه ويفضح تهافت جهاز الأمن الفرنسي في كافة مستوياته الأمنية والعسكرية والمخابراتية، حين أظهر لهم كيف أنهم يحاكمون سبعة مواطنين مغاربة ظلما بتهمة تنفيذ عملية «القطار السريع الدارالبيضاءالجزائر»، بينما هو منفذها، مقدما تفاصيل دقيقة أخرست القاعة والقضاة والأجهزة الأمنية. وقدم مرافعة سياسية جعلت مستشارا قضائيا فرنسيا يجهش بالبكاء، حين رد على القاضي، الذي اتهمه بالإرهاب: «سيدي القاضي، نحن وطنيون ندافع عن بلدنا، ولسنا إرهابيين، نحن نقوم فقط بنفس ما قام به الشعب الفرنسي لمواجهة النازية الألمانية لتحرير فرنسا. فهل ما قام به أبناؤكم إرهاب؟».
هنا محاولة لإعادة رسم ذلك المعنى النبيل الذي شكلته سيرة حياته، من خلال مصادر عدة، من ضمنها عائلته الصغيرة (زوجته السيدة فريدة منصور، ونجله الأخ زكريا منصور، وابنته السيدة سمية منصور)، وعشرات الوثائق الموزعة بين مصادر عدة فرنسية ومغربية، دون نسيان الأيادي البيضاء المؤثرة للأخ الدكتور فتح الله ولعلو، في تسهيل إنجاز هذه السيرة كوثيقة تاريخية.


قبل تدخل سعيد بونعيلات لإطلاق سراح محمد منصور، ستة أشهر بعد عودة الملك الوطني محمد الخامس من المنفى، وشهرا ونصف بعد إعلان استقلال المغرب رسميا يوم 2 مارس 1956، بادرت زوجته بدون موافقته (لأنه كان ضد أن يحسب عليه أنه طلب امتيازا من أحد)، إلى التقدم لدى مصالح نظارة الأوقاف بحي الأحباس قرب المسجد اليوسفي بالدار البيضاء، وطلبت تمكينها من حق السكن بمنزل جديد من منازل حي الأحباس، المخصصة لدعم الأسر التي لا تملك بيتا للسكن. كانت هي (كما تقول) قد ضاقت ذرعا بالبيت الصغير الذي كانت تكتريه بحي بوشنتوف، ويحركها هم الأم، ربة البيت، في أن يستقل أبناؤها بسكن جديد، ما جعلها لا تتفق تماما مع إلحاح زوجها على عدم التقدم بذلك الطلب. الطلب الذي رغم ذلك، سيتم التعامل معه بعدم اكتراث وبدون تقدير للتضحيات التي قدمها زوجها من أجل بلده واستقلالها وعودة ملكها الشرعي إلى عرشه، بل أكثر من ذلك، كان منصور لا يزال بالسجن محكوما بالإعدام من محكمة عسكرية فرنسية، والمغرب أخد استقلاله.
أمام الصلافة التي ووجهت بها من قبل ناظر الأحباس ذاك، الذي كان أصلا موظفا معينا من قبل السلطات الإستعمارية منذ نهاية الأربعينات، وبسبب رفضه منحها حق الإستفادة من المنزل الذي اختارته هي (الذي كان أصلا قد بني ليكون مصحة خاصة لطبيب فرنسي من قبل السلطات الإستعمارية)، قررت السيدة فريدة منصور التوجه إلى مقر رئاسة الحكومة بالرباط، كي تقدم تظلما لدى رئيس أول حكومة مغربية في الإستقلال السيد مبارك البكاي. استقبلها فعلا هذا الأخير بما يليق بها من احترام، ثم أحالها على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي كان على رأسها العلامة محمد المختار السوسي، الذي استقبلها بدوره باحترام، وحين استعرضت أمامه مشكلتها أجابها بالحرف: «السيدة منصور، للأسف هذا أمر فيه حساسية خاصة وهو يتجاوزني». شكرته وخرجت قاصدة مباشرة باب القصر الملكي في محاولة للقاء الملك محمد الخامس. جلست عند باب القصر مع صف من المواطنين تنتظر الفرصة للدخول، حتى لمحها سائق الملك، السيد العربي، الذي كانت تعرفه من قبل عن طريق إحدى شقيقاته العاملة بالقصر الملكي، والتي كانت تزودها من قبل، بأخبار العائلة الملكية والمواجهات مع الإقامة العامة وتنقلها لزوجها ورفاقه ما بين 1950 و 1953.
تقدم منها سائق الملك ذاك، وسألها حاجتها، فأخبرته بقصتها فأكد لها أن الملك مريض ولا يستقبل أحدا، فرفضت المغادرة. كان إلى جوارها وفد من جمعية الممرضات المغربيات التابعات للهلال الأحمر المغربي ينتظرن لقاء مع الملك لتهنئته بعودته من المنفى، وبسبب مرضه خرج إليهن ولي العهد مولاي الحسن ليعتذر منهن ويؤكد لهن أن جلالة الملك سيستقبلهن في مناسبة أخرى قريبة. انتهزت السيدة منصور الفرصة وطلبت من سائق الملك السيد العربي أن ينقل طلبها إلى ولي العهد، فطلب منها الإنتظار قليلا. بعد لحظات عاد وطلب منها مرافقته هي والشابة التي رافقتها من الدار البيضاء (كانت من نساء الحركة الإستقلالية والوطنية) تواجه ذات المشكل. وجدت السيدة منصور نفسها أمام ولي العهد لأول مرة، الذي خرج من وراء مكتبه احتراما لها وسلم عليها بحرارة صادقة، طالبا منها أن تهون من غضبها وتحكي له مشكلتها. أجابته بالحرف: «سميت سيدي، عيب حتى أن أجد نفسي مضطرة أن أزعجك بموضوع مثل الذي جئتكم من أجله، لم يحترم فيه السلم الإداري والحق القانوني فقط. هل من أجل هذا قاوم أزواجنا من أجل الإستقلال، ولا يزال زوجي بالسجن؟.». أنصت لها ولي العهد بإمعان، ثم نادى كاتبه الخاص «مولاي سلامة» وأمره بالتكفل بإنهاء ذلك المشكل باسمه، وأن يتصل بوزير الأوقاف لمنح السيدة منصور البيت رقم 5 الذي اختارته وأن يحل أيضا مشكلة السيدة التي رافقتها. شكرته وغادرت القصر صوب الدار البيضاء.
في الغد جاء مندوب وزارة الأوقاف نفسه بالدار البيضاء وسلمها الوثيقة الرسمية التي تسمح لها بإدخال الإصلاحات في البيت الذي اختارته، وسلمها مفتاحه نهائيا أسابيع بعد ذلك، فانتقلت للسكن فيه رفقة عائلتها وزوجها محمد منصور الذي كان قد غادر السجن حينها. وهو البيت الذي بقي يسكنه سي محمد حتى وفاته رحمه لله.
كان منصور قد التحق كما قلنا من قبل، بجيش التحرير المغربي بالشمال من أبريل 1956 حتى بداية 1957، حين التقاه ولي العهد مولاي الحسن في زيارة تفقدية له إلى الشمال، ضمن مهامه كمنسق مسؤول عن القوات المسلحة الملكية الوليدة حينها، وشرع يطرح على سي محمد فكرة ضرورة أن يتحمل مسؤولية إدارية قيادية في الدولة، لكنه اعتذر وأكد له أن لا طموح أبدا لديه في أية مسؤولية، لأنه أصلا لا يملك أية خبرة إدارية، وأن دوره انتهى مع عودة الملك الشرعي إلى عرشه ونيل المغاربة استقلالهم، واليوم هو يدعم الثورة الجزائرية ويواصل نضاله السياسي الحزبي من خلال مسؤولياته ضمن حزب الإستقلال. وحين عاد في عطلة لأسبوع إلى عائلته بالدار البيضاء، جاءه ذات صباح استدعاء مستعجل من ولي العهد (عبر وزير الداخلية إدريس المحمدي) للحضور إليه في ساعة محددة بالقصر الملكي بالرباط. لبس لباسه العسكري الخاص بجيش التحرير المغربي (الكاكي) وحضر في الساعة المحددة بالقصر، وما أن ولج إليه حتى ولي العهد مولاي الحسن على لباسه الذي جاء به، وأمر حاجب القصر (بناني) منحه ربطة عنق، ألبسها للسي محمد فوق بدلته الكاكي تلك، قائلا له: «عليك أن تقابل جلالة الملك بهندام لائق». حين دخل منصور إلى قاعة العرش رفقة ولي العهد، فوجئ أن هناك صفا من رفاقه المقاومين والوطنيين بلباس رسمي، ففهم أن هناك أمرا رسميا ما. حين دخل الملك محمد الخامس، شرع في السلام عليه، ونودي على منصور من قبل الحاجب الملكي معلنا تعيينه عاملا على إقليم الحسيمة، فأسقط بيده. كانت المفاجئة صادمة له (تؤكد زوجته السيدة فريدة)، لأنه كان يرفض أية مسؤولية رسمية، مثلما أنه كان يحمل هم كيف سيبلغ زوجته بالتعيين هي التي اتفقت معه قبل على الإعتذار ورفض أية مسؤولية كيفما كان نوعها. ولقد عين معه في ذات الإستقبال كل من الغالي العراقي ومحمد المكناسي وعبد لله الصنهاجي وأحمد شنطر والعتابي.
توجه منصور بعدها إلى الحسيمة رفقة رئيس الحكومة مبارك البكاي ووزير الداخلية إدريس المحمدي ليتم تعيينه رسميا في اجتماع عمومي. فيما بقيت عائلته بالدار البيضاء أسابيع قبل الإلتحاق به هناك، بعد أن تمت إعادة تهييئ سكنى المقيم العام الإسباني بالمدينة التي كانت في حالة يرثى لها. وطيلة مرحلة ممارسته لمهامه كعامل جديد على إقليم الحسيمة (سنة وتسعة أشهر)، كان منصور يقضي أغلب الأوقات خارج المدينة يجوب المناطق القروية وبلدات بني بوعياش وأجدير وتارجيست، ولا يعود إلى عائلته وبيته سوى في ساعات الصباح الأولى. كان قد فرض احتراما بفضل صرامته في الحق وصلابته في فرض النظام والأمن، وفي محاربة المحسوبية ومنع أي أشكال للهدايا والرشاوى، ما جلب عليه ردود فعل عنيفة من قبل البنية الإدارية التي كانت قائمة والشبكات المرتبطة بها بالريف والشمال، خاصة بعد أن شرع في تنظيفها من خلال قرارات إدارية تأديبية وإعفاءات وتنقيلات، حتى صارت الحسيمة حينها مضربا للمثل في الأمن العام من حيث المحافظة على مصالح الناس وممتلكاتهم، بالتكامل مع التربية السلوكية العمومية الرفيعة لأهل الريف. كان يساعده في مهامه تلك صديقه الطنجاوي الذي عين كاتبا عاما للعمالة السيد العربي كنون.
حين اندلعت أحداث الريف الشهيرة في بداية أكتوبر سنة 1958، كان محمد منصور في الرباط لحضور لقاء حزبي حاسم تهييئا لمؤتمر حزب الإستقلال (كان عضوا في لجنته التحضيرية، يمثل جناح المقاومة وجيش التحرير)، الذي بدأت تترسم فيه ملامح الإنشقاق، حيث كان منصور محسوبا على فريق المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري والقيادة النقابية التي تنادي بضرورة انتخاب القيادة الجديدة للحزب مباشرة من داخل قاعة المؤتمر، بينما كان فريق الزعيم علال الفاسي يقول بالإبقاء على القيادة التاريخية وتطعيمها بعناصر جديدة عبر الإنتخاب.
حين عاد محمد منصور إلى الحسيمة، كانت تلك الأحداث لا تزال في بدايتها كرد فعل محلي على ما اعتبر إقصاء للنخب الريفية من المسؤوليات الإدارية والقيادية بالمنطقة وتهميشا لها، قبل أن تتحول إلى مطالب سياسية وبدأت تنحو صوب نوع من العصيان المدني العام، بقيادة خارج الحسيمة في منطقة جبلية يقودها محمد سلام أمزيان الذي كان يمتلك شرعية نضالية هناك، كونه كان من رفاق البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي. كانت التقارير التي يرفعها تتضمن إشارة قلق إلى التناقضات بين التقارير الأمنية والتقارير العسكرية، وبين ما تقوله تلك التقارير من ادعاء مطالبة السكان بحل حزب الإستقلال وإسقاط الحكومة وبين مطالب السكان المعبر عنها في اللقاء المباشر معهم التي هي مطالب اجتماعية. فأمر الملك الوطني محمد الخامس عامله على الإقليم محمد منصور أن يتوجه رأسا إلى تلك المنطقة الجبلية للقاء مسؤولي العصيان المدني ذاك. فركب سي محمد منصور رفقة الكاتب العام العربي كنون (تؤكد السيدة فريدة منصور)، بغلتين وصعدا في وفد إلى تلك الجبال ومعهما وسيلة اتصال عسكرية مباشرة مع القصر ومع الملك محمد الخامس، الذي كان يتتبع تلك المفاوضات. شرع منصور في التفاوض معهم ناقلا لهم قبول الملك لكل مطالبهم الإجتماعية من حيث اختيار من يرونه مناسبا من أبناء المنطقة لتحمل مسؤولية القياد والباشوات وباقي المصالح العمومية. ولم يفض ذلك اللقاء الأولي المباشر إلى نتائج نهائية.
عاد منصور من مهمته تلك، إلى الرباط، ليقدم تقريره إلى الملك مباشرة، الذي سيكلف بعدها لجنة وطنية لتقصي الحقائق لحل مشكل الريف يوم 23 نونبر 1958، تتكون من خمسة أعضاء هم: عبد الرحمن أنجامي (مدير الديوان الملكي وهو من أصول ريفية)، الفقيه والمؤرخ محمد داوود التطواني، أحمد الحمياني (رئيس محكمة النقض والإبرام)، الكمندار المذبوح (رئيس الدرك الملكي حينها وهو ريفي أيضا)، عبد القادر شقوف (مهندس بوزارة الفلاحة). ولقد أنهت مهامها يوم 8 دجنبر 1958، يوم تقديم تقريرها الرسمي إلى الملك الوطني محمد الخامس، الذي سيبادر إلى إعفاء وزير الداخلية مسعود الشيكر من مهامه، وإعادة إدريس المحمدي إلى وزارة الداخلية (دامت مهام الشيكر من ماي 1958 إلى دجنبر 1958)، ثم توجيه جلالته نداء وطنيا يوم 5 يناير 1959، يهيب فيه بأهل الريف إلى الإنتصار لجانب الحكمة والتبصر وأن يتعاونوا لإعادة الأمن وحفظ النظام العام لتستقيم الأحوال.
لم يعد محمد منصور إلى الحسيمة، حينها، لتزامن الأمر مع إنهاء مهام اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحاسم لحزب الإستقلال، وتزامن ذلك مع توجه مسؤول سام كبير في الدولة إلى المنطقة للإستطلاع بدوره مباشرة على واقع التطورات، فوقع تصعيد مادي مؤسف من جهة ما هناك ضد ذلك المسؤول السامي، كان السبب والتعلة لمنح المبرر لرد فعل عنيف جدا، ودموي، قاده الجنرال أوفقير شخصيا، بكل ما رافق ذلك من نتائج مؤلمة، عرفت في التاريخ المغربي الحديث ب «أحداث الريف» (التي اشتغلت عليها لأول مرة هيئة الإنصاف والمصالحة ابتداء من سنة 2004). فرفض محمد منصور العودة إلى الحسيمة، بعد تلك التطورات الخطيرة، حيث بقي في بيته بالدار البيضاء بعد أن أعاد عائلته من هناك، ولم يتوصل أبدا، بعدها، بأي ظهير ملكي يعفيه من مهامه كعامل على الإقليم، مما يعني (كما تؤكد زوجته) أنه بقي عمليا عاملا بقوة القانون حتى بعد أن عين عامل عسكري على المنطقة من بعده (الكمندار علوش).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.