من المؤلم جدا، أن نصبح ونمسي في هاته الظرفية الحالكة، التي يتعنتر فيها فيروس قزم، أصغر من الباكتيريا بنحو مئة مرة، أكبر من كل القُوى والتكتلات ألف مرة ومرة،على إصابات في الأسر والعائلات ولدى أشخاص لا تبدو عليهم أعراض العدوى، ما يجعل المغرب في حالة تأهب واستنفار قصوى، لتحديد المصابين والمخالطين، ومخالطي المخالطين. في غمرة هاته الكارثة الوبائية، يواجه النظام الصحي ضغوطا عالية، فرغم السيولة المادية التي صبت في صندوق كورونا، ورغم الحملات التوعوية، ورغم الصرامة الأمنية، ما انفك كورونا المتغول، يقصف مُخَلّفا مزيدا من الضحايا . وتواصل الدولة – من خلال التهدئة من روع الناس، بتحسيسهم بخطورة الوضع ورشهم بمساعدات مالية، القتالَ بيقظة وتدبير، على كافة الجبهات. على أن هذه الروح الاستبسالية المضمخة بالإيمان والتفاؤل والمسؤولية لا تصمد كثيرا، إزاء الحرب الشعواء التي يفتحها كورونا على الأوساط الأمنية والاجتماعية والأطقم الصحية والتمريضية، بدعمِ قواتٍ من الجهَلة الذين يعبّدون طريقه ليس إلى الأفراد المتمردين عن الحجر فحسب، ولكن أيضا إلى الأسر والعائلات، من خلال الاختلاط والتجمعات. ومع أن الدولة وجهت إنذارا للمواطنين بأن «التزموا البيوت»، مذ وقت مبكر لأجل محاصرة هذا العدو، بيْد أن هذا التحذير لم يؤخذ مأخذ الجد،وزاد من تتفيهه وتبخيسه إشاعاتُ المغرضين واستخفافُ الجاهلين وانهزاميةُ القدريين. وبالمحصلة، تم سقوط ضحايا، وتنامت حالات الوفيات، حتى إن المدافن توشك على الملء.وبلغت الحالات الاجمالية في بلادنا إلى حدود الجمعة 2283مصاب والحالات النشطة1904 وحالات الوفاة 130 وحالات الشفاء 249، ومن المرشح أن تتصاعد وتتعدى السقف، ما يهرِق كثيرا من الجهد ، ويجعل الجبهة الدفاعية تنتكس. ولعل مايثير في حالة الحرب الاستثنائية هاته، التي تتطلب تضافر سائر المساعي، تسجيلُ حالة شرود لدى بعض الأطباء، الذين خشوا على أرواحهم وأرواح من في محيطهم، فعمدوا إلى عزل أنفسهم بأنفسهم، بإغلاق عياداتهم، استغلالا للتدابير الاحترازية التي أملتها حالة الطوارئ الصحية،وإقفال هواتفهم،(الرقم الذي تطلبونه مشغول-المرجو الاتصال لاحقا-لايوجد أي مشترك في الرقم الذي تطلبونه حاليا)،وإيقاف استشاراتهم ومتابعاتهم بالمرة،أو بزعم أنهم يتواصلون مع مرضاهم، عن بُعد، كما لو أن جميع المرضى يعرفون طرق التواصل أو لهم إمكانية ذلك.فمعظمهم مِن كبار السن أو ربات البيوت،لايتقنون جيدا أو يجهلون تماما استخدام التيكنولوجيا،وإلا لما كانوا يصرون على عيادة الطبيب بشكل مباشر بين الفينة والأخرى واستفساره حول معالجاتهم في الشاذة والفاذة، وكلما شعروا بآلام فظيعة ووساوسَ تدفع بعضهم إلى حد التفكير في الانتحار، أوكان ثمة توهم أوتوقع منهم لموتِ مباغت، قد يتسلل إليهم عبر لمسة سطح أو إنسان- غريبا كان أو حميما- أو لمسة وجه أو فرك عين، أو عبر كف أوظهركف أوبين الأصابع، خصوصا إذا ما كانت المناعة ضعيفة أو منعدمة. ولقد كشف عبد اللطيف ياسي، وهو طبيب اختصاصي في طب المستعجلات والتسممات بمستشفى الحسن الثاني بأكادير ، «أن هناك أطباء يدّعون المرض للتهرب من علاج مرضاهم في أزمة فيروس كورونا..أطباءً يتمارضون خوفا من نقل العدوى لفلذات أكبادهم وذويهم، ما يجعل المجهودات تتضاعف نظرا للنقص المهول في الموارد البشرية». هكذا يُترك مرضى كثيرون لمصائرهم..للمجهول وحدهم، في غياب أطبائهم، يصارعون أمراضا مزمنة، أو معيقة لحركتهم، أو مستفزة لآلامهم وأوجاعهم صباح مساء، من قبيل أمراض القلب والجهاز التنفسي والسكري والضغط والهشاشة والتهاب الكبد الوبائي، وسرطان عنق الرحم ومرض الكبد الدهني وأمراض العيون وأمراض الأطفال وأمراض الفم والحنجرة والأعصاب والدم والإعاقة البدنية أو الذهنية.. أو النفسية من توتر وقلق وأرق واكتئاب..ما جعل أصوات كثير من المواطنين ترتفع، مطالبة بضرورة فتح كل العيادات واشتغال أطبائهم، الذين لا أحد غيرهم يفقه أمراضهم، ويقدم إليهم استشارات طبية ووصفات وأمصالا تُكسب أو تعزز المناعة، حتى لاتسوء صحتهم أكثرفأكثر. لاشك أن كورونا، يصيب.. يَشُلّ.. يميت هنا وهناك، لكِنّ المجتمع مجند، وفي طليعة الجند الوِزْرات البِيض الذين ارتأوا العزْل الذاتي، بمستشفياتنا ومستوصفاتنا ومستعجلاتنا، لايجالسون أهاليهم ولا أبناءهم، لايستريحون إلا من أجل استئناف العمل..لايفكرون سوى في إنقاذ الحالات المعروضة عليهم، لاينامون ببيوتهم، بل بشقق وضعها مواطنون غيورون على بلادنا رهن إشارتهم، مثلما وضع مخترعون شباب اختراعاتهم بين أيديهم، نذكر منها: جهازٌ يعمل على تعقيم وزرات الأطقم الصحية وأقنعتها وكماماتها، واختراع بوابة يمرعبرها الأطباء للكشف عن احتمال وجود الوباء في صفوفهم قبل مباشرة المصاب، واختراع واقٍ للوجه يحميهم من خطر الإصابة، واختراع يتعلق بإنتاج كمامة، أو قناع متصل يُطلق عليه اسم «مداد»، مرتبط بتطبيق ذكي لتوقع وتتبع الإصابات التي لها صلة بكورونا،واختراع نظام إلكتروني للتشخيص، عبر تطبيق هاتفي خاص يساعد في تسهيل مهمتهم المستحيلة، وينبه إلى ضغط المريض ونبضه وطبيعة تنفُّسه، وكذا اختراع شريحة إلكترونية، تمنع الأطقم الصحية من الاحتكاك المباشر مع المرضى المصابين. غير أن ما يقلق هؤلاء الأطباء المرابطين قرب هذا الدمار العظيم الذي سبّبه الرعب كورونا، هوعدمُ وجود وسيلة نقل خاصة – في ظل هاته الظرفية التي تنقص أو تَقِل فيها وسائل النقل بفضل الحجر الصحي- تُقِلّهم إلى ساحة الحرب، حيث بؤر كورونا وعدواه التي تسقط الضحايا تلو الضحايا، ربحا للوقت ومن غير أن يكونوا عرضة للنشالين ،وما حدث للممرضتين في الآونة الأخيرة،اللتين كانتا تنتظران وسيلة نقل تقلهما إلى العمل فسلبهما نشال أغراضهما وتركهما في حالة خوف شديد لم ينفع معها صراخ ولا بكاء، لَيَزيد من انزعاجهم. وما برِح الجيش الأبيض يتخندق في الصفوف الأمامية، صابرا مصطبرا ، اعتزلوا أنفسهم بأنفسهم من أجل علاج المرضى مباشرة.. اعتزلوا أولادهم وأحِبّتهم والتحقوا بالميدان أو أوْدعوهم بأماكنَ آمنةٍ وأيادٍ مسؤولة..استعدادا للعزل الذاتي عند احتمال إصابتهم، مضحين بأنفسهم من أجل الوطن، من أجل أن تستمر الحياة. ولقد استطاعت الوزرات البيض زرعَ ثقافة الاعتراف ، بخدماتهم في المجتمع ورسالتهم النبيلة، بتأكيد إسهاماتهم وأياديهم البيضاء وكفاءاتهم واقتدارهم على ركوب الهول كورونا في اشتغال بصمت ونكران ذات، معيدين الاعتبار إلى المؤسسة الصحية،مشيرين إلى أن قطاع الصحة بنوعيه المدني والعسكري بحاجة إلى التفاتة كريمة لتوفره على أهلية وكفاءة على مستوى التكوين والتمرس..والتحسيس،من خلال مناشدة المواطنين الأصحاء أو المرضى التزام الحجر الصحي، كي تصل السفينة إلى شط النجاة، كما استطاعوا الرد على أناسٍ ومواقعَ كثيرة تؤاخِذهم بما قام به بعضهم من سلوكات يمُجّها المجتمع، مثل أولائك الأطباء الذين يمارسون اختصاصا غير اختصاصهم استهانة بالمهنة، أو في غفلة من الرقابة والمحاسبة، كما هو الشأن بالنسبة لذلك الطبيب العام، الذي انتحل صفة اختصاصي في توليد النساء وهو يحمل الإصابة بكورونا. المتعَين أن يكون ثمة تمييز بين طبيب وطبيب: واحد في فُوّهة كورونا، مهدد بالإصابة بالفيروس في كل وقت وحين، رغم اتخاذ الاحتياطات اللازمة،وآخر قابع في بيته،مستلقيا فوق أريكته يتابع ما ينجَز لصالح المواطنين من غير أن يُقدم أيَّ إسهام أو إضافة في هاته المعركة الشرسة، خشية العدوى التي تعِده بالإقصاء واعتزال الأهل والأحبة والعمل وجني المال. ولأن دوام الحال من المحال، فكورونا مهما عاث وأمعن في القتل، سيكون أثرا بعد عين على غرار أوبئة أشد فتكا من قبيل الطاعون والكوليرا وايبولا وسارس وميرس وزيكا..وستعود الحياة كما كانت لامحالة، وسنغادر شرفات منازلنا وغرفنا وأكواخنا وغيراننا..في السهول والجبال، وسنودع سباتنا الطويل والممل.. سنتخلص من كماماتنا وأقنعتنا وقفازاتنا ووسواسنا القهري لنتنفس الصعداء، لنعانق..لنقبل بعضنا البعض، لنشد على الأيدي بحرارة من جديد. ومن العرفان والامتنان وقتها، أن نتجه نحو شهداء الواجب الوطني ، الذين قدموا تضحياتٍ جساما،وأنفسَهم قرابينَ للوطن.. أمامهم ننزع القبعة وننحني بهدوء وخشوع، غير ناسين طبعا لا الجهات الأمنية ولا الإعلامية ولا باقي الفاعلين على اختلاف نشاطاتهم وتضحياتهم، المواجهين لعدوان كورونا. وسنرصِّع صفحات تاريخنا بنضالاتهم، وسنفخر وأبناءنا وأبناءهم بل والأجيال القادمة بشجاعاتهم النادرة في ظرف عصيب لا أعاد الله مثله علينا .. وستحكي الأمهات والجدات أقاصيصَ وحكاياتٍ عنهم للناشئة، وسيؤلف عنهم الكتاب بوصفهم أبطالا وطنيين واقعيين يعطون المثال المنشود عن الإيمان بحب الوطن والتفاني في الإخلاص له، وسيخرج المخرجون سلسلات وأفلاما مشوقة وأفلاما وثائقية عنهم لأنهم شِهام آثروا صحة المواطنين على سلامتهم، ووقفوا إلى جانب المرضى في الشدة، مجازفين بأعز ما يملكون وهو الحق في الحياة..أنْقَذوا أنْفسا من أجل الحياة، ومن أحيى نفسا، فكأنما أحيى الناس جميعا، منهم من مازال حيا يُرزق، ومنهم من فارق الحياة كريما مِقداما لايهاب الموت، وانحفروا في وجداننا ..أذهاننا..قلوبنا، وظلوا بيننا أكثر حضورا، وليس مجرد رقم أو نسبة مئوية أو إحصائية، نتأسف على من أصيب منهم بربوع المملكة (تطوان-مراكش-فاس-مكناس-الدارالبيضاء..)،ومن سقط منهم شهيد الواجب الوطني، على سبيل المثال لا الحصر: مريم أصياد، بالدارالبيضاء، ونور الدين بنيحيى بمكناس، وهو طبيب متقاعد عاد لعمله بعد تفشي الوباء، وفريد الأنصاري بمراكش. وليس من المروءة في شيئ-وهو ما نتوقعه – أن يظهر عند انجلاء غمة كورونا غدا، أولائك الأطباء،الذين تملصوا من مسؤولياتهم..الذين أقفلوا عياداتهم وكل اتصال بهم، وأشهروا شواهد طبية تحدد عجزهم في وجوه مواطنين في خطر، ليَلاّ يباشروهم ويخففوا معاناتهم مع أمراضهم، فيتشدقون في مواقع التواصل الاجتماعي، أويُجْرون حوارات أو يتفلسفون في محاضرات أو يتحدثون في ندوات.. بوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمنطوقة، بكل افتراء وصفاقة عن فتوحات وتضحياتٍ لهم مع المرضى ووقفاتهم إلى جانبهم..