''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    أخنوش تلاقى وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي وبحثوا التعاون الثنائي والإرتقاء بالشراكة الإستراتيجية بين الرباط وباريس    رئاسة مؤتمر حزب الاستقلال تقترب من قيوح .. واللجنة التنفيذية تشعل المنافسة    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بايتاس ينفي الزيادة في أسعار قنينات الغاز حالياً    الأمثال العامية بتطوان... (582)        بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 28 : أكبر مركب طبي بالدار البيضاء مدني وعسكري بمرس السلطان سنة 1929 على مساحة 40 هكتارا
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 27 - 05 - 2020

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

نعود هنا، إلى الدار البيضاء، التي ستشهد طبيا انعطافة غير مسبوقة في كامل المغرب (سواء في أجزائه المحتلة من قبل فرنسا في الوسط، أو تلك المحتلة من قبل إسبانيا في الشمال والصحراء بالجنوب، أو بالمنطقة الدولية بطنجة)، ابتداء من سنة 1928. حيث ولد لأول مرة بالمغرب، ما يمكن وصفه ب “المركب الطبي الضخم”، بذات الشكل المتحقق في كبريات العواصم الغربية مثل لندن وباريس وبرلين وموسكو وروما.. وكل الوثائق التاريخية التي تمكنا من الوصول إليها تجمع على أنه مشروع طموح جدا، في حجمه وأدواره، للمقيم العام الفرنسي الماريشال ليوطي، الذي كان يكاد يشرف أسبوعيا على تتبع تقدم الأشغال في إنجازه، في رحلة بالسيارة من العاصمة الرباط، حتى وإن لم يكتب له أن يحضر تدشينها، بسبب إنهاء مهامه كمقيم عام بالمغرب سنة 1926 بسبب تداعيات حرب الريف. مما يجعل شخصية هذا المحتل الفرنسي تستوجب إعادة قراءة من موقع مدرسة التاريخ المغربية (أنجزت حوله العديد من الدارسات التاريخية الفرنسية لعل أهمها كتاب “ليوطي المغربي” لبيير فيرميرن، وكذا الكتاب القيم من الناحية العلمية والأكاديمىة “المغرب من ليوطي إلى محمد الخامس” للمؤرخ دانييل ريفي).
لقد شكلت سنوات 1928/ 1931، نقطة انعطافة غير مسبوقة في تطور خدمة الطب الحديث ببلادنا، من خلال إنشاء 3 مؤسسات طبية ضخمة بمدينة الدار البيضاء بالمرتفع الصغير لمرس السلطان، التي تشكل اليوم مجموع المركب الإستشفائي الجامعي الضخم “إبن رشد”. كان المخطط المديري للدار البيضاء الجديدة، الذي أنجزه المهندس المعماري الفرنسي بروست سنة 1915، بطلب من المقيم العام ليوطي، يتضمن ليس فقط خلق مدينة أروبية حديثة، على مستوى عماراتها ومبانيها ومصالحها الإدارية العمومية وأسواقها وأحيائها المغربية (ذات المعمار المغربي الأندلسي)، بل أيضا خلق خدمتين حيويتين هي مساحات خضراء ضخمة وكبيرة (مثالها الأكبر حديقة الجامعة العربية الممتدة على هكتارات متعددة)، وفضاء طبي خدماتي بمقاييس عالمية حديثة.
بالتالي، فإنه ابتداء من سنة 1925، بعد التدرج في تنفيذ ذلك المخطط المديري (العمراني) الجديد، الذي مكن من توسيع نسيج ساكنة الدار البيضاء بشكل غير مسبوق في مسافة زمنية لا تتجاوز 20 سنة، كان لابد من تغيير بنية المشهد الطبي بها، حتى يتوازى والمستوى المعماري والخدماتي الذي بلغته المدينة تلك (ابنة الميناء الجديد، الأكبر حينها بكامل إفريقيا.. والتي ستبنى بها أيضا في سنة 1949، عمارة الحرية بطوابقها 17، التي ظلت حتى بداية الثمانينات أعلى عمارة في إفريقيا). كان القرار التدبيري هو تحرير الضغط على المؤسسات الطبية التي ولدت بداخل أو بمحيط المدينة القديمة، سواء في شقها العسكري أو المدني، من خلال إطلاق مشاريع إنشاء 3 مركبات صحية ضخمة، واحد منها عسكري (مستشفى جونفيال، الذي هو المستشفى المدني 20 غشت اليوم) والآخران مدنيان (مستشفى كولومباني ومستشفى موريس غو)، ابتداء من سنة 1925. حيث سيفتتح مستشفى كولومباني سنة 1928، وبعده بفترة قليلة مستشفى موريس غو، فيما افتتح المستشفى العسكري سنة 1931.
اللافت في ذلك “المركب الطبي الضخم”، ليس فقط مساحته الكبيرة التي تتجاوز 40 هكتارا، ولا عدد أشجاره التي تتجاوز 1500 شجرة، بل فلسفة هندسته العمرانية القائمة على إنشاء مؤسسة طبية ممتدة جغرافيا وليست مركبا طبيا عاليا بطوابق متراكبة. ففي وثيقة هامة جدا، من ست صفحات، للمدير العام لمستشفى كولومباني في سنواته الأولى، السيد أندري لوروي، نجد تفسيرا ملفتا لذلك الإختيار الذي قال بخصوصه: “إن الخصوصية المميزة لبنايات المستشفى كامنة في أنها تمنح تهوية مثالية وأيضا سهولة في التنظيف والوقاية (…). لقد انتقد البعض تباعد البنايات الطبية داخله، لكن علينا تذكيرهم بإيجابيات ذلك، المتمثلة في عدم السقوط في عائق الأعطاب التي تسجل عادة في مصاعد المستشفيات العالية، بكلفتها الكبيرة ماليا، بينما التنقل بوسائل نقل داخلية اليوم بالمستشفى أقل كلفة بكثير. مثلما منحنا ذلك تحكما أكبر في كل الوسائل التقنية الخاصة بكل مصلحة على حدة. بينما منح الأمر للمرضى فرصة التحرك والتجوال في فضاء ضاج بالخضرة، يجعلهم يستشعرون أنهم فعليا في مؤسسة طبية للعلاج والنقاهة، وليس مجرد مرضى مسجونين في غرف طبية داخل طوابق عالية”. نحن هنا، إذن، أمام فلسفة طبية علاجية متكاملة.
حسابيا، يعتبر المستشفى العسكري الجديد بالدار البيضاء الأكبر من حيث مساحته (20 هكتارا)، يتبعه مستشفى كولومباني (17 هكتارا)، وأخيرا مستشفى موريس غو المدني الخاص بالمرضى المغاربة (3 هكتارات). ولعل من مكر الأمور، أن الإسم الذي اشتهر به ذلك المركب الطبي الضخم مغربيا من حينها إلى اليوم هو “مستشفى موريزغو” (تحريف في النطق بسيط لاسم الطبيب العسكري الفرنسي الشهير موريس غو)، بسبب أن المغاربة في غالبيتهم الكبرى كانوا يلتجؤون إلى المؤسسة الأصغر ضمن ذلك المركب الطبي الخاصة بهم (والمجانية)، وصار التعبير الدارج هو “الذهاب إلى مستشفى موريزغو”، فيما تم حجب نهائيا باقي أسماء المؤسستين الطبيتين الأخريين، رغم أنهما الأكبر، من الذاكرة الجمعية للبيضاويين (كان المستشفى العسكري خاصا بالجنود والضباط وعائلاتهم، فيما كان مستشفى كولومباني يقدم خدماته بمقابل مالي للأروبيين بالأساس وبعض من أغنياء المغاربة). في مكان ما، فإن دلالة ذلك، هو أن ساكنة الدار البيضاء من المغاربة، وهم الأغلبية، قد اعتبروا أن مستشفاهم هو “موريس غو” وليس المؤسستان الأخريان. هذا ملمح مغر بالدراسة سوسيو/ نفسيا على كل حال.
كان حضور المؤسسة الطبية الدينية المسيحية كبيرا في ذلك المركب الطبي الضخم، ليس فقط بسبب حضور “الممرضات الراهبات” من التيار الفرانسيسكاني (بشكل لباسهن وحجابهن الرمادي والأبيض المميز)، بل بملكية الأرض التي بني فوقها ذلك المركب الطبي الهائل بالدار البيضاء، التي هي في ملكية الفاتيكان إلى اليوم، وهي محبسة بقرار بابوي من روما، لتكون مجالا للخدمة الطبية فقط، وممنوع نهائيا استغلالها لأغراض تجارية. من هنا جاء القرار التنظيمي (ضمن المخطط الإداري للمهندس بروست)، أن تضم تلك البقعة الأرضية الشاسعة جدا، المستشفيات الثلاث تلك، وكذا مؤسسة مختبر باستور/ الدار البيضاء، التابع مباشرة إلى باستور/ باريس.
بالأرقام، بلغت مساحة ما بني من مصالح طبية بمستشفى كولومباني، مثلا، 18 ألف متر مربع (وهذا رقم خرافي بالمغرب سنة 1928)، بينما بلغت مساحة ما بني بالمستشفى العسكري المجاور له، 15 ألف متر مربع، ومساحة ما بني بمستشفى موريس غو اللصيق بهم أيضا، 7 آلاف متر مربع. وكانت تضم مصالح طبية كبيرة جدا، وفرت في مجموعها ما يفوق 850 سريرا، موزعة بين خدمات طبية عامة وخاصة. حيث نجد بناية مستقلة لطب النساء والأطفال، وبناية مستقلة للطب العقلي والنفسي، وبناية مستقلة للمستعجلات الطبية، وبناية مستقلة للأمراض الصدرية، وبناية مستقلة لأمراض العيون، وبناية مستقلة لأمراض القلب والشرايين، وبناية مستقلة لأمراض الأنف والأذن والحنجرة، وبناية مستقلة للأمراض الباطنية، وبناية مستقلة لأمراض العظام، وبناية مستقلة لأمراض السرطان. ثم مقار سكن للمدير العام والطبيب الرئيسي والممرض الرئيسي وسكنى الأطباء الطلبة الداخليين (كانت مخصصة لهم فيلا مستقلة وعددهم لا يتجاوز 7 طلبة أطباء داخليين سنة 1930)، ومطبخا كبيرا وصيدلية داخلية ومعزلا للتنظيف وسكنى مدير الأمن العام للمستشفى ومشرحة للتشريح الطبي وبناية لحفظ الأموات. فيما بلغ مجموع العاملين بها من أطباء وممرضين ومساعدين وحراس ومنظفين وصيدليين، ما مجموعه 315 (181 بمستشفى كولومباني و159 بالمستشفى العسكري و76 بمستشفى موريس غو) ، يشكل الأطباء ضمنهم ما مجموعه 37 طبيبا من مختلف التخصصات.
كان المغرب، حينها، أي مع نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات، قد دخل إلى مستوى أعلى في الخدمات الطبية الحديثة، انطلق أساسا بالدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى الرباط سنوات بعد ذلك، مكن من تغيير شمولي للخريطة الطبية والصحية بالمغرب، جعلها ترتقي بمقاييس الصحة العالمية إلى مراتب متقدمة حينها، توازي المتحقق في كبريات العواصم الغربية. هل بقي الأمر كذلك اليوم؟ هذا سؤال كبير، مزعج، لكنه محاسب أيضا. نحن في زمن جائحة كورونا، كنا سنكون تجهيزيا ومؤسساتيا وخدماتيا (من الناحية الطبية والصحية) أفضل بكثير من الحال الذي نحن عليه اليوم، لو تمت المحافظة على ذلك المستوى الذي تحقق من حيث بنية الخدمات الطبية التي كانت في مركبات هائلة مثل مركب مرس السلطان المنجز من قبل الحماية في سنوات 1925/ 1931.
ومما يسجل هنا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أن مستشفى موريس غو الخاص بالمغاربة مسلمين ويهود قد كانت خدماته مجانية (والمصالح البلدية للمدينة ومصالح الصحة العمومية هي التي تتحمل ميزانيته العامة ومصاريف العلاج به)، بينما كان المستشفى العسكري مخصصا للضباط والجنود وعائلاتهم والعلاج فيه مجاني أيضا بحكم طبيعة الأمور، بينما كان العلاج بمستشفى كولومباني (الدكتور كولومباني هو الطبيب الفرنسي الذي كان أول مدير للمستشفى العسكري بالرباط وأول مديرعام لقطاع الصحة العمومية بالمغرب)، بمقابل مادي، حسب المستوى الإجتماعي للمريض، فالأغنياء يؤدون 63 فرنكا فرنسيا قديما في اليوم، بينما متوسطو الحال يؤدون 32 فرنكا في اليوم، ويعفى من الأداء الفقراء الحاملون لوثيقة رسمية من المصالح البلدية للمدينة. وفي سنوات 1930 / 1936، استفاد من العلاج بمختلف مصالحه 22 ألف مريض، قضوا في المعدل ستة أيام داخله، 51 بالمئة منهم فرنسيون، 22 بالمئة إسبان، 15 بالمئة إيطاليون، والباقي من المواطنين المغاربة مسلمين ويهود.

الطب الحديث بالمغرب.. غنيمة حرب
توصلت بالعديد من الإتصالات والرسائل التفاعلية (المفرحة) من قبل قراء هذه السلسلة الرمضانية الخاصة بقصة دخول الطب الحديث إلى المغرب منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، كان تمة سؤال يعبرها جميعها في ما معناه:
هل هذا يعني أن الإحتلال والإستعمار الأجنبي للمغرب كان إيجابيا وإنسانيا، ولم يكن ظالما واستغلاليا وعنصريا؟.
وهو السؤال الذي رأيت أن من المهم الجواب عليه عموميا من خلال هذا الإطار الخاص المصاحب لهذه الحلقة المنهية لهذه السلسة الرمضانية (سنة 2020).
الحقيقة إن احتلال المغرب وتوزيعه بين قوى استعمارية متعددة (وهو الوحيد في العالم الذي استعمر من قبل أكثر من دولة استعمارية. بل في منطقة طنجة الإستراتيجية على مضيق جبل طارق، فرضت عليه سلطة 12 دولة أجنبية)، قد شكل تجربة خاصة واستثنائية في التاريخ المغربي كله. لأنه بمنطق الحقيقة التاريخية، فالجغرافية المغربية لم يسجل أبدا أنها قد احتلت من قبل قوة خارجية منذ تأسست كدولة سنة 789 ميلادية، أي منذ 14 قرنا، لا عربية إسلامية ولا غربية مسيحية ولا إفريقية سوداء. بل كانت العديد من الأنظمة السياسية المغربية التي حكمت به هي التي تتوسع لضم جغرافيات أخرى بعيدة شرقا حتى طرابلس ليبيا، وجنوبا حتى نهر السينغال وغانا وتمبكتو بمالي، وشمالا حتى حدود جبال البيريني الفرنسية (أي كامل إسبانيا والبرتغال الحديثة اليوم).
بالتالي، فإن تجربة احتلال كامل أراضيه ابتداء من سنة 1911، بقوة النار والبارود وبفاتورة كبيرة من القتلى والمعطوبين، والتي لم تتحقق بشكل نهائي سوى سنة 1936 (وحاز المغاربة استقلالهم سنة 1956، مما يعني عمليا أن الإستعمار الشامل لكافة أراضيه لم يدم سوى 20 سنة)، تعتبر أول احتلال واستعمار لكل أراضيه منذ تأسس كدولة. وهذا شكل صدمة في تاريخ الوعي المغربي أسميها دوما “صدمة الإستعمار”، بسبب كونها شكلت صفعة أفاقت مارد “الوطنية” المغربي من سباته، وجعلتنا كجماعة بشرية نصطدم بالحداثة وبمنطق السوق العالمي كما تبلور بشمال الكرة الأرضية في القرن 19 وبداية القرن 20. مع تسجيل أن احتلال المغرب نفسه لم يتم سوى بعد مؤتمرات دولية منذ 1880 حتى 1906، عرفت بمؤتمرات “القضية المغربية” بسبب عدم توافق القوى الدولية الكبرى على إطلاق اليد لواحدة منها للإستفراد بالمغرب. فكان أن تم تقسيم الحلوى المغربية بين عواصم دولية عدة.
حين دخلت فرنسا المغرب، كما كتب الماريشال ليوطي نفسه وأعلن ذلك عموميا أكثر من مرة، فإن إدخال خدمة الطب الحديث إلى بلادنا قد كان وسيلة حرب أخرى أشد فعالية من الوحدات العسكرية ومن الرصاص والدبابات. لأنه يكسب ثقة القلوب والأنفس من خلال شكل علاجه الفعال أمام الفقر الطبي والعلاجي الذي كان ضاجا بالمغرب حينها. بالتالي، فهي حرب بصيغة أخرى. لكنها أداة حاسمة غيرت وعي كل أفراد المجتمع المغربي، وليس فقط النخبة، وجعلت يقين الإصلاح (إصلاح الذات وإصلاح الجماعة وإصلاح البلد) يولد هائلا بين المغاربة.
بهذا المعنى، فالطب الحديث بالمغرب هو غنيمة حرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.