ودع عام التنس بعد مشوار حافل رياضيا وإنسانيا سيبقى اسم روجيه فيدرر محفورا في تاريخ كرة المضرب، التي يعتزلها وهو معشوق الجماهير في جميع أنحاء العالم، بعدما ترك السويسري فيها أثرا لا يمحى بضرباته الفنية العبقرية وأناقته داخل وخارج الملعب. هل هو أعظم لاعب في تاريخ اللعبة؟ من حيث عدد الألقاب الكبرى لم يعد السويسري اللاعب الأكثر تتويجا بل تفوق عليه من هذه الناحية غريماه الإسباني رافايل نادال (22) والصربي نوفاك ديوكوفيتش (21)، بعدما أثرت عليه الإصابات وأوقفت عداده عند 20، آخرها يعود إلى عام 2018 حين توج بطلا لأستراليا المفتوحة للمرة السادسة في مسيرته. لكن في القلوب، سيبقى السويسري الرقم واحد في كل مكان تقريبا. في ويمبلدون التي تعتبر حديقته المفضلة، توج باللقب ثماني مرات في إنجاز لم يسبقه إليه أي لاعب، وفي رولان غاروس شعر الجمهور بالارتياح لرؤيته يكمل مجموعته من الألقاب الكبرى بتتويجه عام 2009. في الواقع، حظي فيدرر بدعم مشجعيه في جميع الدورات والبطولات من دون قيد أو شرط، حتى إن كان ذلك في بعض الأحيان على حساب أبناء وطنهم. يتمتع فيدرر بكل سمات البطل المثالي، بما في ذلك وقبل كل شيء أسلوب لعب لا مثيل له من ناحية الجمال، الهجوم والإثارة التي ولدتها مخاطراته وحبست أنفاس الجمهور. قدم التناقض في أسلوب اللعب بينه وبين نادال ملاحم تاريخية في ملاعب الكرة الصفراء، وأدت الخصومة الرياضية بينهما إلى تكوين صداقة لا تتزعزع. ويعتبر نادال من اللاعبين النادرين الذين نجحوا في التفوق على فيدرر في المواجهات المباشرة بعدما تغلب على السويسري 24 مباراة في 40، بينها 14 من أصل 16 على الملاعب الترابية المفضلة عند الإسباني، وأبرزها فوزه على منافسه أربع مرات في نهائي رولان غاروس. بالنسبة لنادال، الذي يعتبر من أكثر المعجبين بكلاسيكية منافسه، فكلمة «مثالي» تلخص طريقة لعب فيدرر: «لديه إرسال رائع، ضربة +على الطاير+ رائعة، ضربة أمامية أكثر من مثالية، ضربة خلفية مثالية (بيد واحدة). إنه سريع جدا، كل شيء مثالي لديه». بالنسبة لأولئك الذين لا يتابعون التنس عن كثب، فإن السويسري هو أيضا مثالي على الصعيد الشخصي: واقع في حب نفس المرأة لأكثر من عشرين عاما، والحديث هنا عن ميروسلافا «ميركا» فافرينيتس، لاعبة التنس السابقة من أصل سلوفاكي، التي التقى بها في أولمبياد سيدني 2000 وأنجبا معا أربعة أطفال. كما أنه منخرط في الأعمال الخيرية، لاسيما في جنوب إفريقيا مسقط رأس والدته. يجتمع الجميع تقريبا على حب فيدرر، حتى أولئك الذين يعتبرون من خصومهم في أرضية الملعب مثل الأميركي أندي روديك، الذي قال للسويسري بعد خسارته أمامه في نهائي ويمبلدون «أتمنى لو كنت أكرهك، لكنك لطيف جدا «. لطالما أحب السويسري «إعطاء صورة شخص جيد»، بما في ذلك بذله جهدا كبيرا في المؤتمرات الصحافية والرد على الأسئلة باللغات الأربع التي يتقنها (السويسرية والإنكليزية والفرنسية والألمانية). سجله الحافل ضخم. فإلى جانب ألقابه في البطولات الكبرى، أحرز السويسري ستة ألقاب في بطولة الماسترز الختامية و28 في دورات الألف نقطة للماسترز ولقبا في كأس ديفيس للمنتخبات وحتى ميدالية أولمبية ذهبية في الزوجي بجانب صديقه ستانيسلاس فافرينكا عام 2008 في بكين. وتبقى الذهبية الأولمبية في الفردي اللقب الكبير الوحيد الذي أفلت من فيدرر، الفائز بالمجمل ب103 ألقاب خلال مسيرته الأسطورية، التي تصدر فيها تصنيف رابطة المحترفين لمدة 310 أسابيع، في إنجاز كان قياسيا حتى تمكن ديوكوفيتش من تجاوزه عام 2021 في طريقه للتربع على الصدارة لمدة 373 أسبوعا . هذه العظمة لم تأت من فراغ، بل بدأت الرحلة منذ أن اكتشفت باكرا موهبة هذا الصبي المولود في بازل عام 1981. لكن هذه «الجوهرة الخام التي كان بحاجة إلى التلميع» وفقا لتعبيره الخاص، احتاجت إلى أن تقمع تهورها وميلها للخروج عن طورها عندما لا تسير الأمور كما تريد. ولهذا السبب، وخلافا لنجوم كبار آخرين مثل السويدي بيورن بورغ والأميركي جيمي كونورز أو سامبراس ونادال، كان عليه الانتظار حتى عامه الاحترافي السادس في الملاعب لرفع أول ألقابه الكبرى على عشب ويمبلدون عام 2003، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره. هذا الإنجاز الذي حققه في بطولة يعشقها، مثل بداية رحلة تاريخية في ال»غراند سلام» أحرز خلالها 11 لقبا في أربعة مواسم بين 2004 و2007، ما أحبط عزيمة منافسيه في تلك المرحلة أمثال الأسترالي ليتون هيويت وروديك. باتت الأمور أكثر صعوبة على السويسري مع صعود نجم نادال وديوكوفيتش ووصلهما إلى النضج الرياضي، لكن فيدرر استمر في الانتصارات وزين أسطورته بمباريات ملحمية، مثل نهائي ويمبلدون 2007 (توج باللقب) و2008 (خسر ضد نادال). وبعد فترة تراجع مؤقتة اعتبارا من 2011، سجل فيدرر عودة مذهلة في 2017 و2018 ليضيف إلى مجموعته ثلاثة ألقاب جديدة في البطولات الكبرى، رافعا رصيده إلى ثمانية في ويمبلدون، ستة في أستراليا، خمسة في فلاشينغ ميدوز إضافة إلى لقبه الوحيد في رولان غاروس عام 2009. ورغم تكوينه البدني العادي (1.85 م)، تمتع فيدرر في الواقع بصفات استثنائية من ناحية السرعة وقدرة التحمل وقدرته على تجنب الإصابات، التي أفلت منها حتى تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره. تميز فيدرر بتعطش لا ينضب للانتصارات ولا يوجد رقم قياسي يمكن أن يرضي غرور البطل لديه. لم تغير السنوات إيمانه بأنه قادر دائما على الفوز مهما كان الخصم كبيرا والفوز بأكبر الألقاب. لكن وبما أن لكل شيء نهاية، رضخ فيدرر أخيرا لعامل العمر والإصابة وقرر الاعتزال عن 41 عاما، بعد «أكثر من 1500 مباراة خضتها على مدى 24 عاما «، مضيفا «أعرف قدرات وحدود جسدي وفي الفترة الأخيرة رسالته كانت واضحة» بأن عليه التوقف.
