ضمن برنامج «حضارة واحدة»، أَصدرت مؤسّسة الفكر العربي الترجمة العربيّة لكِتاب «أوضاع العالم 2021»، الذي حمل عنوان «الشرق الأوسط والعالَم». والكِتاب الذي أشرف عليه الباحثان الفرنسيّان الأستاذان في معهد الدراسات السياسية في باريس، برتران بادي ودومينيك فيدال، نقله إلى العربيّة الأستاذ نصير مروّة. «الشرق الأوسط» هو في «وثيقة ولادته» أقرب إلى أن يكون «شُهرةً» منه إلى أن يكون اسماً. فهو أوّلاً الشرق، لأنّه شرق الذّات الأوروبيّة. إنّه اسمُ مجالٍ إقليميّ أو فضاءٍ جِهويّ، ارتسمَت صورتُه سلفاً تِبعاً لبَرنامجٍ خارجٍ عنه واستجابةً لمشروعٍ غريبٍ عليه؛ وهو اسمٌ لم يَختَرْهُ أصحابُه له، ولكنّه انتهى إليهم كما هو. ولهذا فإنّه يعكس غَلَبَةً حلَّت بمنطقةٍ فجرى رسْمُها وإعادةُ تكوينها على أساس هذه الغَلَبَة، وتحت ضغْطِ الأحداث الدوليّة، التي عادت هي بدَورها فأثَّرت فيها. ويرى برتران بادي أنّ هذه التفاعُلات هي من القوّة بحيث إنّها تستحقّ توجيه الانتباه إليها، وأنّ الأمرَ يستحقّ إجراء «تحليلٍ دوليّ للشرق الأوسط». وقد شارك في هذا التحليل أكثر من 30 خبيراً ومختصّاً في السياسة والعلاقات الدوليّة والاستراتيجيّة والتاريخ والحضارة، والتاريخ الاستعماري… في قراءة للشرق الأوسط من منظورٍ دوليّ، تناوَلُ هنري لورانس الدَّورَ الذي اضْطلَع به التاريخُ في تكوين هذا الشرق الأوسط، متقاطعاً مع رأي آلان غريش في أنّ أوّل ساحات الحرب الباردة توافقت مع ظهور دَور النَّفط الإقليميّ في النِّظام الدوليّ منذ الخمسينيّات وهو ما توقّف عنده ماتيو أوزانّو. كما فصّلَ دنيس بوشار الانسحابَ التدريجيّ للبلدان الغربيّة من الشرق الأوسط، وفكّ ارتباطها التاريخيّ معه في ظلّ صعود قوىً إقليميّة شرق أوسطيّة كبرى؛ إذ إنّ إدارة اللّعبة الكبرى الشرق أوسطيّة عند مُفترق 1990-1991، قد انتقلت، كما يقول فريديريك شاريّون، من أيادٍ إلى أيادٍ أُخرى. فكان الحدث الأهمّ بعد الحرب الباردة ونهايتها عند هؤلاء الكُتّاب، هو سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، بحيث يرى برنارد هوركاد في ثورة 1979 الإيرانيّة، «الثورة الأولى الما- بعد- سوفياتيّة»، فضلاً عن فشلِ القطبيّة الآحاديّة التي اعتمدَتْها المُحافَظة الأميركيّة الجديدة، وفَشَل الإيديولوجيّة التي تقوم عليها كما يرى سيلفان سيبيل. فالحروب الأخيرة في المنطقة كانت تهدف إلى البرْهَنَة على أنّه «ليس ثمّة من خيارٍ بديلٍ قابِل للحياة» عن الزعامة الأميركيّة فيها، وأنّها أَنْهَتْ سلفاً الأطروحةَ التي تشاء أن تكون نهاية الحرب الباردة قد فَتَحَت الطريقَ أمام عالَمٍ مُتعدِّد الأقطاب. ولهذا يتساءل كريم باكزاد عمّا إذا كانت بواعث التنازُلات الأميركيّة في تفاوُضِها مع طالبان أفغانستان ليست فكّ ارتباط، وإنّما مُحاوَلة تَجعل من طالبان ومن عرّابها، أي باكستان، حُلفاء لأميركا في المُستقبل. في المقابل، كانت وضعيّة الشرق الأوسط بين اللّاعبين والرّهانات محور اهتمام كلّ من كريم إميل بيطار، وجان- بول شانيولو، وآنيِّس ليفالوا، وفيليب دروز- فنسان، وريّان حدّاد، وأوريلي ضاهر، وتيري كوفيل، ودومينيك باري، وإيغور ديلانوي، والحاج بوبا نوهو، وأحمد إينسيل، ولوران بونّفوا، وميريام بن رعد، وفرانك فريغوسي، ومانون- نور طنّوس، وسيلفي جان، وإيزابيل آفران، وآن- سيسيل روبيرت، ورومان آبي، والسفير السابق (لدى إيران) فرانسوا نيكولّود؛ فقاموا بتفكيك وضعيّة الشرق الأوسط عبر قراءة تراجُع مَنزِلة الاقتصاد الشرق أوسطيّ في الاقتصاد العالَميّ، ومواجهة المنطقة لصَدمتَيْ جائحة كوفيد-19 وهبوط أسعار النفط، واستخدام السلطات في الشرق الأوسط جائحة كورونا لتطويعِ الحركات الاحتجاجيّة، وتراجُع دَور المسيحيِّين، والارتباط المتزايد للأمن الداخلي للجمهوريّة الإسلاميّة باستقرار المنطقة، والتوظيف الإنمائيّ للصين تجاوُزاً للتوظيفات الإنمائيّة للولايات المتّحدة، انطلاقاً من قناعةٍ صينيّة بأنّ السِّلمَ مَكسبٌ يُكسَبُ بالتنمية الاقتصاديّة المُتبادَلة، وعودة روسيا إلى الشرق الأوسط، ودَور الدبلوماسيّة الشرق أوسطيّة (السعوديّة والإماراتيّة والإيرانيّة والتركيّة أساساً) في القارّة الأفريقيّة، وتداخُل الفاعِلين المَحليّين والإقليميّين والدوليّين وتشابكهم في اليمن، والمشكلة السوريّة وتقاطعاتها الإقليميّة والعالَميّة وتعقيداتها كصورةٍ عن مثالٍ أصيل اسمه أزمة الشرق وظهور طرفٍ خارجيّ هو الدولة الإسلاميّة، الذي حوَّل المُشكلةَ إلى صراعٍ ضدّ الإرهاب، والمسألة الفلسطينيّة، وغيرها من القضايا الرّاهنة والساخنة الخاصّة بالشرق الأوسط والعالَم، والتي تضيء على مُجمل ما نعيشه اليوم. لا شكّ أنّ هذا الكتاب الغنيّ بقراءاته وتحليلاته المتنوّعة يرسم لوحةً مفصَّلة ومُتكاملة للشرق الأوسط، تُكسِب القارئ معرفةً أكبر بوضعيّته في إطار تقاطعاته مع أبرز القضايا الإقليميّة والدوليّة وتفاعلات أطرافه معها، في الماضي كما في الحاضر.