قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... · وبلغنا أن رجلا جاء إلى أبي حازم فقال له: إن الشيطان يأتيني فيقول: انّك قد طلّقت زوجتك، فيشكّكني. فقال له: أوليس قد طلّقتها؟ قال: لا. قال: ألم تأتني أمس فطلّقتها عندي؟ فقال: والله ما جئتك إلا اليوم ولا طلّقتها بوجه من الوجوه. قال: فاحلف للشيطان إذا جاءك كما حلفت لي وأنت في عافية. القاضي بن طولون يكتشف جريمة قتل رأى ابن طولون يوما حمّالا يحمل صندوقا وهو يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنقه وأنا أرى عنقه بارزة، وما هذا إلا من خوف ما يحمل. فأمر بحطّ الصندوق، فوجد فيه جارية قد قتلت وقطّعت، فقال: أصدقني عن حالها. فقال: أربعة نفر في الدار الفلانيّة أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة. فضرب الحمّال مائتي ضربة بعصا، وأمر بقتل الأربعة. القاضي بن طولون ونباهته في كشف أحوال القلوب وكان ابن طولون يبكر ويخرج، فسمع قراءة الأئمة في المحاريب، فدعا بعض أصحابه يوما وقال: إمض إلى المسجد الفلاني، وأعط إمامه هذه الدنانير. قال: فمضيت فجلست مع الإمام وباسطته حتى شكا أن زوجته ضربها الطلق، ولم يكن معه ما يصلح به شأنها، وأنه صلى فغلط مرارا في القراءة، فعدت إلى ابن طولون فأخبرته. فقال: لقد صدق، لقد وقفت أمس فرأيته يغلط كثيرا فعلمت أن شيئا شغل قلبه. والي مصر يتسابق مع خادمه وبلغنا عن بعض ولاة مصر أنه كان يلعب بالحمام فتسابق هو وخادم له فسبقه الخادم، فبعث الأمير إلى وزيره ليعلم الحال، فكره الوزير أن يكتب إليه أنك قد سبقت، ولم يدر كيف يكني عن ذلك، فكان ثمّ كاتب فقال: إن رأيت أن تكتب شعرا: يا أيها الملك الذي جدّه لكل جد قاهر غالب/ طائرك السابق لكنّه أتى وفي خدمته حاجب فاستحسن ذلك وأمر له بجائزة. القاضي بن النسوي وطريقته في كشف اللص جيء إلى ابن النسوي برجلين قد اتهما بالسرقة فأقامهما بين يديه، ثم قال: شربة ماء، فجاء بها فأخذ يشرب ثم ألقاها من يده عمدا فوقعت فانكسرت، فانزعج أحد الرجلين لانكسارها وثبت الآخر، فقال للمنزعج: اذهب أنت، وقال للآخر: ردّ ما أخذت. فقيل له: من أين علمت؟ فقال: اللص قوي القلب لا ينزعج، وهذا المنزعج بريء، لأنه لو تحرّكت في البيت فأرة لأزعجته ومنعته من أن يسرق. لا رأي لحاقن كان بعض العمّال واقفا على رأس أمير، فأخذه البول. فخرج، فلما جاء قال: أين كنت؟ قال: أصوب الرأي. يعني أنه لا رأي لحاقن. حيلة لكشف سارق المال ذكر بن الجوزي في كتاب الأذكياء أن رجلا سرقت منه خمسمائة دينار، فحمل المتهمون إلى الوالي. فقال الوالي: أنا ما أضرب أحدا منكم. بل عندي خيط ممدود في بيت مظلم، فادخلوا فليمرّ كل منكم يده عليه من أول الخيط إلى آخره ويلف يده في كمّه ويخرج، فإن الخيط يلف على يد الذي سرق. وكان قد سوّد الخيط بسخام، فدخلوا، فكلهم جرّ يده على الخيط في الظلمة إلا واحدا منهم، فلما خرجوا نظر إلى أيديهم مسودة إلا واحدا فألزمه بالمال، فأقر به. البلاغة والبداهة وأتى عديّ بن أرطأة شريحا وهو في مجلس القضاء، فقال لشريح: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إسمع مني. قال: لهذا جلست مجلسي. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: الحبيب القريب. قال: وتزوّجت امرأة من قومي. قال: بارك الله لك، بالرفاه والبنين. قال: وشرطت لأهلها أن لا أخرجها. قال: الشرط أملك. قال: وأريد الخروج. قال: في حفظ الله. قال: اقض بيننا. قال: قد فعلت. القاضي إياس يكشف خيوط المؤامرة استودع رجل بعض الشهود كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف دينار، فلما حصل الكيس عند الشاهد وطالت غيبة الرجل قدّر أنه قد هلك، فهمّ بإنفاق المال، ثم دبّر وفتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير، وجعل مكانها دراهم، وأعاد الخياطة كما كانت. وقدّر أن الرجل وافى وطلب الشاهد بوديعته، فأعطاه الكيس بختمه، فلما حصل في منزله فضّ ختمه فصادف في الكيس دراهم، فرجع إلى الشاهد، فقال له: عافاك الله، اردد عليّ مالي فاني استودعتك دنانير والذي وجدت دراهم مكانها. فأنكره ذلك، فاستدعى عليه القاضي إياس فأمر بإحضار الشاهد مع خصمه، فلما حضرا سأله: منذ كم أودعته هذا الكيس؟قال: منذ خمس عشرة سنة. فأخذ القاضي الدراهم وقرأ سككها، فإذا هي دراهم منها ما ضرب منذ سنتين وثلاث ونحوها، فأمره أن يدفع الدنانير إليه، فدفعها إليه وأسقطه وقال له: يا خائن. ونادى مناديه: ألا إن فلان بن فلان القاضي قد أسقط فلان بن فلان الشاهد، فاعلموا ذلك ولا يغترنّ به أحد بعد اليوم. فباع الشاهد أملاكه في واسط وخرج عنها هاربا، فلم يعلم له خبر ولا أحس منه أثر. خيانة الأمانة وغياب النباهة اختصم إلى قاضي القضاة الشاميّ يوما رجلان وهو بجامع المنصور، فقال أحدهما: إني أسلمت إلى هذا عشرة دنانير. فقال للآخر: ما تقول؟ قال: ما أسلم اليّ شيئا. فقال للطالب: هل لك بيّنة؟ قال: لا. قال: ولا سلمتها إليه بعين أحد؟ قال: لا، لم يكن هناك إلا الله عز وجل. قال: فأين سلّمتها إليه؟ قال: بمسجد بالكرخ. فقال للمطلوب: أتحلف؟ قال: نعم. قال للطالب: قم إلى ذلك المسجد الذي سلمتها إليه وائتني بورقة من مصحف لأحلّفه بها. فمضى الرجل واعتقل القاضي الغريم، فلما مضت ساعة التفت القاضي إليه فقال: أتظن أنه بلغ ذلك المسجد؟ فقال: لا ما بلغ إليه. فكان هذا كالإقرار، فأمره بالذهب فأقرّ به. صغر السن وكبر المقام ولي يحيى بن أكثم قضاة البصرة وسنّه عشرون أو نحوها، فقال له أحدهم: كم سنّ القاضي؟ فعلم أنه قد استصغره فقال له: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجّه به النبي صلى الله عليه وسلّم قاضيا على أهل مكّة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجّه به النبي صلى الله عليه وسلّم قاضيا على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجّه به عمر بن الخطّاب قاضيا على أهل البصرة. الكلمات حمالة أوجه كان شيخ كبيرا يعلم طلابه في الفقه، وتأخر ذات مرة فأناب شيخا آخر لا يصل إلى درجته في العلم وجلس هذا الأخير في الحلقة وبدأ يشرح درسا في باب التيمم.. قال: والتيمم لغة القصد وطلب من أحد الطلاب شاهدا على هذا المعنى فقال الطالب: تيممتكم لما فقدت أولي النهى/ ومن لم يجد ماء تيمم بالترب فظن الشيخ أن الطالب يقصده بهذا البيت وأن الطلاب جالسين في الدرس على مضض فأخذ ورداءه وغادر الحلقة.