"الآن، بعدما فاضت منافض السجائر" غونترغراس يبقى المثقف استثناء، في مواقفه وفي رؤيته، قياسا بالسياسي. فإذا كان السياسي يتخذ مواقفه بناء على حسابات الربح والخسارة أو على ما يمكنه أن يخدم مصالحه وعلاقاته بحلفائه أو بمن يدورون في فلك مصالحه، التي غالبا ما تكون آنية، نفعية، فالمثقف، حين يكون صاحب فكر أو نظر، من الصعب أن يكون موقفه آنيا أو مؤسسا على مصالح نفعية. كان المثقف دائما، في خلاف مع السياسيين، ومع ما يتخذونه من قرارات، أو ما يذهبون إليه من مواقف، ليس لأن المثقف يسعى إلى الانفراد برأيه أو يذهب إلى الاختلاف لأجل الاختلاف فقط، فموقفه نابع من طبيعة الرؤية التي يصدر عنها، وهي رؤية تحتكم إلى معطيات الحاضر، كما تحتكم إلى معطيات الماضي، كما أنها قراءة متأنية، فاحصة، تحاول أن تقرأ الأشياء والأحداث بوعي استنباطي وبنوع من النظر الموضوعي أو بنوع من التجرد النسبي، الذي لا يحدث في قراءة السياسي وليس من طبيعة رؤيته ولا فهمه. التوتر الحاصل في العلاقة بين السياسي والمثقف يعود إلى هذه النقطة بالذات، ففي الوقت الذي يعمل فيه السياسي على حجب الحقائق أو تغييمها، وعلى قراءة الوقائع انطلاقا من موقعه الإيديولوجي، أعني من هذه النظارة التي بها يحكم على الأشياء، وفق ما تتيحه له من نظر، يكون المثقف منهمكا في فحص هذه الوقائع وفي تأملها، أعني في شروطها الموضوعية وفي ما تتيحه من شروط ذاتية أيضا، قبل أن يقول كلمته في الموضوع أو يتخذ موقفه وقراره. في ضوء هذه المسافة، جاء موقف الكاتب الألماني غونترغراس مما يجري بصدد إيران، وما صدر من مواقف من أمريكا والغرب من رغبة إيران في «حيازة» السلاح النووي، وهو ما لم يحدث بصدد إسرائيل، الدولة التي تقع خارج هذه المواقف، رغم ما لديها من رؤوس نووية ورغم ما تتزود به من أسلحة متطورة، من أمريكا ومن غيرها من حلفائها أو مسانديها، بما في ذلك ألمانيا، بلد غونترغراس. جاء موقف غونترغراس شعريا. كان النص قويا ومؤثرا، وحظي باهتمام من قبل عدد من الصحف الغربية، ونشر بشكل واسع في عدد من المواقع الإلكترونية، كما ترجم إلى عدد من اللغات، بما فيها العربية. النص، في ما قرأته من ترجمات، هو نص مكثف، يقول فيه غونترغراس الأشياء والوقائع بنوع من الاختزال والتكثيف الدالين، لا ثرثرة ولا ابتذال؛ فغونترغراس اختار الشعر، بغض النظر عن كونه نثرا أو نظما، ليقول بنوع من التركيز والإيجاز ما كان يمكن أن يقوله في خطاب أو مقال نثري طويل، مثلما فعل في بيانه بشأن الحرب على العراق في ماي 2003. فبقدر ما كان النص الشعري يدين إسرائيل، التي هي دولة فوق القانون و«خارج نطاق المراقبة» ولا تستجيب أو تنصاع للقرارات الدولية، بقدر ما كان بيانه عن العراق يدين أمريكا ويفضح «التشوهات» التي طرأت عليها، بتغاضيها عن قرار الأممالمتحدة وانفرادها بقرارها الذي سعت من خلالها إلى فرض حرب، كانت ألمانيا بين الدول الحليفة لأمريكا التي رفضت المشاركة فيها. فبين أن يكتب الكاتب نثريا أو يكتب شعريا، فهذا ما يجعل من اختيار أحد النوعين، في نظره، طريقة في التعبير تكفي لوصول الرسالة بالطريقة التي يرغب فيها. ليس الاختيار عبثيا أو هو مجرد صدفة، بل إنه يكون، في العادة، محسوبا وله مبرراته التي يمكن للكاتب أن يكشف عنها أو يتركها في طيات النص، يمكن للقارئ أن يستشفها أو يصل إليها إذا هو أمعن في النص أو قرأه، ليس باعتباره مجرد رسالة تريد أن تقول شيئا ما بل باعتباره شكلا لا يمكن للرسالة أو الخطاب أن يصل دون وعيه، كخطاب في ثنايا أو طيات الخطاب أو أحد الدوال البانية لهذا الخطاب. يعود بي هذا إلى نص الشاعر الراحل محمود درويش «عابرون في كلام عابر» الذي كانت إسرائيل اعتبرته معاديا وفيه تهديد لدولة إسرائيل ولوجودها. الفرق أن غونترغراس، كما يقول في نصه، ينتمي إلى بلد «تلاحقه جرائم عتيدة، لا نظير لها»، أي أنه ربما يتكلم من موقع المذنب! ومحمود درويش كان يتحدث من موقع الضحية الذي يريد سماءه، كما يريد أرضه، لأنه أصبح بدون أرض، ولا سماء له أيضا. فإسرائيل انزعجت من نص محمود درويش ورفضته، كما أزعجها نص غونترغراس الذي اعتبرته «غير مرغوب فيه». نصان شعريان يختلفان في رؤيتهما وفي موقعهما، لكنهما يدينان ويفضحان مروق إسرائيل و«نفاق الغرب» الذي هو طرف في ما يتعرض له «السلم العالمي» من تهديد وما يمكن أن تجره الحرب المتوقعة على إيران، بنفس مبرر الحرب على العراق، فيما إسرائيل بقيت خارج المساءلة و«المراقبة» الدولية. ما يقوله غونترغراس هو إدانة للعالم، ل«نفاق الغرب» وكذبه، فهو لا يريد أن يرى ما تختزنه إسرائيل من أسلحة نووية وما تنفقه في التسلح، بدعوى ما تتعرض له من تهديد خارجي. غونترغراس يتخلى عن صمته هذه المرة، وهو ما سيفعله عدد من المثقفين الألمان، ويقرر فضح الغرب، بما فيه بلده ألمانيا التي «ستورد غواصة أخرى لإسرائيل»، كنوع من «التعويض» عن تلك "الجرائم العتيدة" التي ما تزال تطارده؛ فإسرائيل أو «القوة النووية لإسرائيل» هي ما «يهدد السلام العالمي الهش بطبيعته». ينتبه غونترغراس، أو ينبه، إلى سلاح آخر يمكن أن تستعمله إسرائيل ضد كل من ينتقدها أو يفضح همجيتها، وهو سلاح «معاداة السامية» كذريعة لقمع كل رأي حر، مستقل، يفضح أفعالها وما تقوم به من جرائم، في بشعة ضد الفلسطينيين. فهو حين قرر أن يقول «ما ينبغي أن يقال»، وضع في ذهنه سيناريوهات المواجهة التي ستعمل إسرائيل على حبكها وصياغتها، خصوصا أن عددا من الكتاب والمفكرين والمبدعين الغربيين كانوا، قبل غونترغراس، وقفوا نفس الموقف، وكانت الآلة الإعلامية الإسرائيلية واجهتهم، وسعت إلى وضعهم ضمن قائمة غير المرغوب فيهم، أو أعداء إسرائيل بالأحرى. «لن أصمت بعد اليوم لأنني سئمت نفاق الغرب». يشي هذا الإصرار بموقف ثابت أو رغبة في فضح ما يجري، حيث إسرائيل ليست وحدها ما يعني الكاتب، بل من يقفون وراءها ويسعون إلى ضرب إيران بذريعة «الاشتباه في حيازة إيران سلاحا نوويا»، دون النظر إلى إسرائيل التي يعرف كل العالم أنها تحوز السلاح النووي، وما زالت تتسلح، دائما بذريعة «الدفاع عن النفس» أو مواجهة «العدوان الخارجي». في «بيان بشأن الحرب على العراق»، كان غونترغراس اختصر معنى ما يجري في ما قاله بصدد القانون الجديد الذي سيكون هو الشريعة الجديدة التي ستحكم العالم بعد الآن، أي بعد العشرين من مارس من عام 2003. فمنذ هذا التاريخ «لم يعد يسري إلا قانون الأقوى. وبحكم هذا القانون الظالم، صار الأقوى يمتلك في هذه الحرب السلطة لشراء المتطوعين ومكافأتهم واحتقار العازفين عن المشاركة فيها، وبل ومعاقبتهم أيضا»، ويذكر غونترغراس بقولة جورش بوش الابن، بأن «من لا يكون معنا فهو علينا أو ضدنا» التي بقيت «تخيم على كل ما يحدث الآن كما لو كانت صدى آتيا من العصور الهمجية». مما كان مهما بشكل لا فت في بيان غونترغراس هو هذه «الأصولية الدينية» التي صدر عنها الطرفان في مواجهة بعضهما أو تبرير أعمالهما تجاه بعضهما البعض. «لقد دفعت الأصولية الدينية كلا الطرفين إلى انتهاك حرمة الدين، وجعلت من الله، خالق الكل، أسيرا للفهم المتعصب». ما يزال الدين في صلب ما يجري، أو ما يزال التوظيف الإيديولوجي للدين هو ما يدفع بالأمور في اتجاه التوتر و«تهديد السلم العالمي». لم يبق الدين إيمانا وطريقة في النظر إلى الوجود وفهم الطبيعة والأشياء، فهو أصبح سلاحا لم يعد يستعمله طرف دون آخر، بل إن الطرفين، معا، يستخدمانه، كل من موقعه، لمواجهة الآخر، وتبقى الأفعال المترتبة عن هذه المواجهة هي حاصل هذا التطرف الذي أصاب الطرفين، دون تمييز.