عندما قال الشاعر جون دون عبارته الشهيرة: «لا يوجد إنسان منعزل في جزيرة وحده»، فقد كان محقا في زمنه. ولا تزال هذه المقولة حقيقية بعد 400 عام، حيث ازدادت تعقيدات المجتمع وتزايد اعتماد بعض أجزائه على البعض الآخر. وتظهر الدراسات المعاصرة أن الأفراد يمكنهم أن يتحولوا إلى «دواء جيد»، وأن أولئك الذين يتمتعون بصلات اجتماعية قوية يكونون في صحة أفضل من الآخرين المنعزلين. فالأشخاص المتزوجون، مثلا، أفضل صحة من غير المتزوجين، أو المطلقين، أو الذين توفي شركاؤهم في الحياة. ومع أنه من السهل فهم فوائد التواصل الاجتماعي بين الأفراد وجها لوجه، فإن الأبحاث تفترض أن التواصل الاجتماعي يتسم بوجود تأثيرات مستمرة، وإن كانت ضئيلة الشدة، تمتد إلى حدود أبعد من أجواء العائلة الصغيرة أو الكبيرة. ويمكن لبعض من هذه التأثيرات تعزيز الصحة، بينما يكون بعضها الآخر حاسما. ومهما كانت تأثيرات نتائج التواصل بين البشر، فإن تلك التأثيرات تمنح الشبكات الاجتماعية مضمونا جديدا.
نشر المشكلات: لنأخذ مسألة السمنة، التي تعتبر من المسائل الخطيرة في أمريكا، وما دام أن اثنين من كل 3 أمريكيين يكونان مبتليين بالبدانة أو السمنة، فإنه يمكن القول إن المشكلة قد وصلت إلى إطارها الوبائي. وهناك الكثير من التفسيرات لزيادة محيط خصر الأمريكيين، ابتداء من قلة ممارسة التمارين الرياضية إلى تناول كميات كبيرة من الأطعمة الرخيصة المعالجة صناعيا والغنية بالسعرات الحرارية.
ولكن السؤال المطروح هو: هل يوجد احتمال في أن تستشري ظاهرة السمنة بسبب التواصل الاجتماعي الذي يلعب دوره أيضا؟ وهل وباء السمنة هو عدوى أيضا؟ وقد أجابت دراسة مهمة عن هذا السؤال ب: نعم! وقد دقق باحثون في جامعتي «هارفارد» و«كاليفورنيا» في حالات 12067 شخصا من الذين تم تقييمهم طبيا مرات كثيرة بين عامي 1970 و2003، عند إجراء «دراسة فرامنغهام للقلب»، ووجدوا أنه إن حدث أن أصبح أحد الإخوة سمينا أثناء الدراسة، فإن احتمال أن يصبح أحد إخوانه سمينا ازداد بنسبة 40 في المائة. وقد تلعب الجينات دورها في حدوث البدانة بين الإخوة، إلا أنها لا تلعب دورها عندما يصبح الزوج سمينا أو الزوجة، إذ ظهرت زيادة بنسبة 37 في المائة لدى شركاء الحياة عندما ازداد وزن الزوج أو الزوجة. وقد تفسر المشاركة في وجبات الغذاء وعادات نمط الحياة الأخرى هذه النتيجة، إلا أن العلماء وجدوا أيضا أن احتمال تحول الشخص إلى إنسان سمين يزداد بنسبة 57 في المائة إن تعرض صديقه للسمنة. ويعتمد تأثير الشبكة الاجتماعية على الوضعية الاجتماعية أكثر من اعتماده على القرب الجغرافي، فالسمنة تؤثر على الصديق، مهما كان يعيش بعيدا، أكثر من تأثيرها على الجار. كما أن التأثيرات تكون ملموسة بين الأصدقاء من الجنس الواحد، إذ ازداد احتمال سمنة رجل صديق لرجل آخر أصبح سمينا بنسبة 100 في المائة. وعندما يعتبر اثنان صداقتهما متبادلة، فإن احتمال سمنة أحدهما تزداد بنسبة كبيرة تصل إلى 171 في المائة إذا أصبح الآخر سمينا.
لماذا تنتشر السمنة بين الشبكات الاجتماعية؟ إن هذا التأثير للسمنة يتخطى تأثير الجينات وتأثير الوسط المحيط، ورغم أن الباحثين لم يدرسوا بشكل خاص أنساق النظام الغذائي أو التمارين الرياضية، فإنهم وجدوا أن التغيرات في عادة التدخين لم تلعب دورا في انتشار السمنة لدى المشاركين في «دراسة فرامنغهام للقلب». ولا يعرف العلماء تمام المعرفة كيفية انتشار السمنة، ومع هذا، فإنهم يشكون في وجود عامل رئيسي هو أن الشبكات الاجتماعية تؤثر على الأعضاء المنخرطين بها وعلى أحاسيسهم بالأمور التي تبدو مقبولة ومتفقا عليها. وإذا حدث أن رأى رجل أصدقاءه يتحولون إلى أشخاص سمينين مع الزمن، فقد يتقبل زيادة الوزن على أنها أمر طبيعي، بل وحتى أمر حتمي. وهكذا، وبدلا من إجراء تمارين رياضية أكثر وتناول طعام أقل عندما يزداد وزنه، فإنه يجد نفسه منجرفا مع تيار أصدقائه.
نشر السعادة: ويشير الباحثون الذين سبق لهم أن أشاروا لنا بأن السمنة قد تصبح «عدوى» تنتشر عبر الشبكات الاجتماعية أيضا، إلى أن هذه الشبكات توفر للأفراد المشاركين بها مشاعر إيجابية أيضا. وقد شكلت نتائج «دراسة فرامنغهام للقلب» أيضا الأساس لدراسة أخرى حول السعادة. فقد راقب الباحثون حالات 4739 شخصا بين عامي 1983 و2003 بوصفها عينة من السكان. وقد أفاد هؤلاء الأشخاص أن لديهم علاقات وصلت في مجملها إلى 53228 صلة اجتماعية، سواء كانت عائلية أو مع الأصدقاء أو الجيران أو زملاء العمل. واستفاد الباحثون من نتائج الدراسة الأصلية المتعلقة بالجوانب الصحية والنفسية للمشاركين، ووظفوا «مقياس الاكتئاب لمركز الدراسات الوبائية» Center for Epidemiological Studies Depression Scale لتقييم السعادة في بداية الدراسة وفي نهاية فترة المتابعة. وهنا ركزت الدراسة على تقييم التغيير في السعادة والمزاج عبر الزمن، على غرار تركيز الدراسة سابقة الذكر على تقييم الوزن مع الزمن. وكانت «دراسة فرامنغهام» قد أكدت النتائج القائلة بأن كيفية شعور