يخوض العالم المقاصدي أحمد الريسوني، في هذه الحلقات التي خص بها جريدة «المساء» خلال شهر رمضان، في عدد من القضايا التي أصبحت محط نقاش المجتمع المغربي، من قبيل القيم الكونية، و خصوصيات المجتمعات الإسلامية، ومفهوم الحرية وحدوده الاجتماعية والشرعية، وكرامة الإنسان التي يقول فيها الريسوني: «لو تصورنا أن للإنسان سعرا معينا، فإن ما لا يقل عن تسعة أعشار قيمته هي كرامته».. انطلاقا من منهجية ومبادئ «مقاصد الشريعة الكبرى»، القائمة على أن الشرع يكون حيث تكون مصلحة المواطنين. كما يؤصل رئيس رابطة علماء أهل السنة وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لهذه المواضيع التي سبق أن أدلى فيها برأيه الذي فاجأ الإسلاميين قبل العلمانيين، تأصيلا يحرص على إظهار ملازمة العقل للنقل في القيم والمبادئ الإسلامية، كما يدعو إلى التأسيس لقيم كونية بديلة. تُقرر الآيةُ الكريمة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبدُوا رَبَّكمُ الّذِي خَلَقَكمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكمْ تَتَّقونَ) أن الله تعالى يأمرنا بعبادته بقصد الوصول إلى صفة التقوى. ولأجل التقوى أيضا فرض علينا الصيام، وذلك في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فكيف تؤدي عبادة الله تعالى إلى تحقيق التقوى وصناعة المتقين؟ عن أية عبادة نتحدث؟ فالعبادات التي يمارسها الناس، من مسلمين وغيرهم، أنماط وأحوال ودرجات، سواء في ظواهرها أو في بواطنها، أو في أغراضها ونتائجها. فلذلك لا بد من التوضيح أن العبادة التي أتحدث عنها إنما هي العبادة التي شرعها الله تعالى، وكما وصفها وأرادها سبحانه. فتلك هي العبادة التي تجعل صاحبها يتقي ويرتقي. العبادة المتحدث عنها ليست هي تلك الممارسات الاجتماعية المتبعة بحكم التوارث والعادة، نصلي مع الناس، ونصوم مع الناس، وكما صلى آباؤنا وأجدادنا. كما أنها ليست تلك الطقوس الصورية، التي تؤدى فقط لكونها تكليفا لا بد منه ولا محيد عنه، وليست هي العبادة العقيمة القاصرة، التي لا أثر لها خارج ذاتها.وإنما العبادة المقصودة: هي أولا: عبادة تعبر بوعي عن الإيمان والامتنان للخالق الرازق المنعم، وذلك صريحٌ في تتمة الآية السابقة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكمْ تَتَّقونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ). وقد قرر علماء العقيدة أن أول الواجبات وأكثرها بداهة في العقول والأخلاق: شكرُ المنعم. فالإنسان يلزمه أن يشكر من أحسن إليه أقل إحسان، فكيف بمن أحسن إليه كل الإحسان؟ وكل إحسان، في الحقيقة، عائد إليه سبحانه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل: 53]. فمن ترك شكر المنعم فقد ضيع عقله وخلقه معا. وهي ثانيا: تشريف وتكريم للإنسان. وأي شرف أعظم وأكرم من علاقة مباشرة، دائمة منتظمة، بين المخلوق وخالقه. وهي ثالثا: طمأنينة للقلوب وشفاء للنفوس. قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]. فالركون إلى الله والاعتصام به هو منتهى القوة المعنوية والراحة النفسية والسعادة القلبية. وأما فقدان هذه النعمة فهو باب الضياع والتمزق والقلق، كما قال سبحانه: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31، 32]. قال الفقيه ابن راشد القفصي رحمه الله في كتابه (لباب اللباب): «... فالعبادات إنما هي أدوية لأمراض القلوب، وإن الله تعالى أنزلها رحمة للعباد، وصِقالاً لمرآة قلوبهم ليتوصلوا بذلك إلى محل أُنسه، وسكنهم في حظيرة قدسه. قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: الذكر مع حضور القلب ينوره، فإذا عرفت ذلك عرفت أن الله تعالى لم يأمر عباده بالعبادات إلا ليشرفهم بها لا لاحتياجه إليها، فإنه لا ينتفع بها ولا يتضرر بالمعاصي». ورابعا: هي عبادة تسري في الحياة وتسري فيها الحياة، عبادة منتجة للتقوى وسلوكِ الأتقياء، وليست عبادة قاصرة منعزلة عما حولها. ففي الصلاة، وهي أُمُّ العبادات، نجد قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، فإذا رأينا مصليا يرتكب الفواحش والمعاصي والمظالم، فهو حتما لا يصلي الصلاة المطلوبة منه، وهو حَرِيٌّ أن يقال له ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ. وكيف يكون مصليا حقيقيا من يظل يتوضأ ويتشهد، ويتوجه إلى ربه، ويقف بين يديه، ويركع له ويسجد، ويتلو ويذكر... ثم هو يسلم ويعود إلى منكراته، من كذب وزور وغش ورشوة وغير ذلك؟. ولنتدبر ما حكاه الله تعالى عن نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [سورة هود: 85 - 88]. وأما الصيام، الذي نحن فيه هذه الأيام، فنجد قوله صلى الله عليه وسلم «من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وقولَه أيضا: «الصيام جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّهُ أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم». قال العلامة ابن عاشور في تفسيره: «... والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي..، فجُعلَ الصيامُ وسيلة لاتقائها ...وفي الحديث الصحيح «الصوم جنة»، أي وقاية. ولَمَّا تُرك ذِكرُ متعلَّق «جُنة»، تَعَيَّنَ حملُه على كل ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة: ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات». فالحالة الجديدة التي يحدثها الصيام في حياة الصائم هي أنه يخرج من حالة الارتخاء والانسياق والاعتياد، ويصبح شديدَ اليقظة والحذر من أي خلل أو زلل، سواء بقول أو عمل، وتلك هي التقوى.