ترتب على تيار الوحدة العربية الجديد (وحدة الشعوب) الذي ابتدعه عبد الناصر إسقاط أحد العوائق الرئيسية التي كانت تحول دون المصالحة مع اليسار، فلم يعد هناك ما يستدعي حبس الشيوعيين بسبّب معارضتهم للوحدة مع سوريا والعراق. وبدا الطريق مُعبّدا كذلك لليسار الماركسي بكافة أطيافه للتقرّب من زعيم الثورة المصرية قبيل أن يتحوّلوا فيما بعد إلى الناصرية بعد استحسانهم للإجراءات التقدمية التي اتخذها عبد الناصر وكان من أبرزها مشاركته في مؤتمر باندونغ 1955 وإلحاق مصر بحركة دول عدم الإنحياز، إضافة إلى مساعيه الرامية لتقوية مصر عسكريا واقتصاديا والتي تمثلت لهم في صفقة التسلح التي قام بإبرامها مع موسكو وتأميم قناة السويس كرّد فعل على رفض الولاياتالمتحدة تمويل بناء السد العالي والاتفاق حينئذ مع الاتحاد السوفياتي لتمويل بناء السدّ العالي في اسوان وهي غايات ستحقّق بالنسبة إليهم أحلام الملايين من المصريين ولأجيال عدّة متلاحقة. أطفال النظام المدللين أخذت المناقشات تتصاعد رويدا رويدا بين المعتقلين السياسيين مع قرب الإفراج عنهم، وأخذت الغالبية تتساءل هل يجدر بنا الانضواء تحت لواء الناصرية بلا قيد أو شرط رغم ما نشعر به تجاه نظام عبد الناصر ذي الطابع الاستبدادي....، فها هو يتجه سريعا وقبل عام من الإفراج عن اليسار إلى إصدار القوانين الاشتراكية وتبّنى الميثاق الوطني، الذي أدخل معه البلاد إلى طريق الاشتراكية العالمية بدلا من الاشتراكية العربية التي اعتبرت لاغية منذ ذلك الوقت، وها هو ينطلق في مسلسل الإصلاح بتأميمه للممتلكات الوطنية بمنتهى القوة وانتزاعها من الرأسماليين المحتكرين المستغلين، وها هي الدولة تستحوذ على شركات التأمين وجميع المؤسسات المالية بما فيها المصرفان الرئيسيان (بنك مصر والبنك الأهلي المصري)، حتى أخذتهم البهجة نظير التوسع الناصري في الإصلاح الزراعي وتقليص رقعة الملكية الفردية إلى النصف وتعديل النظام الضريبي لصالح الرواتب المتواضعة وبتر المداخيل المرهقة بنسبة 90% من قيمتها حتى أضحى معها عمال المصانع بمثابة أطفال النظام المدللين الذين أصبحوا يتمتعون بأسبوع العمل ذي الساعات الاثنتين والأربعين يتولون بأنفسهم إدارة مؤسساتهم ويحصلون على حصة تفوق 25% من الأرباح التي تضاف إلى رواتبهم الأصلية... نصير الفقراء.. لم تمر سوى أيام قليلة على تلك التوجهات التي أخذ عبد الناصر يخطو بها حتى تعززت مكانته في أوساط الشعب المصري وطبقاته المختلفة واستحق معها لقب نصير الفقراء وأبي مصر الحديثة كما أطلق عليه الكثيرون، خاصة بعد أن ندّد بالبرجوازية الجديدة التي تكوْنت على هامش النظام الاشتراكي وبعد أن أضحى الميثاق الوطني الذي تبناه شخصيا بمثابة الكتاب المقدس للدولة المصرية الحديثة، ذلك الميثاق الذي أدان من خلاله سُخرية السلطة الشخصية ومبدأ ديكتاتورية البروليتاريا مُناديا في نهاية المطاف بضرورة تلاحم وتعاون كافة الطبقات الاجتماعية للوصول إلى الأهداف العامة للأمة.. كانت تطلعات عبد الناصر التي أخذ يوصلها للجماهير العربية عبر قلمه التحريري محمد حسنين هيكل قد أثارت حفيظة الكثيرين في ظل الدهشة لما يقوله وما يدعو إليه في نفس الوقت، فرغم طبيعة عبد الناصر الحذرة والمتحّسبة للعواقب إلا أنه أخذ يرتكب (حسب ما عدّه الكثيرون) العديد من الحسابات الخاطئة أثناء أزمة 1967 تمثلت في إجراءات في غير موضعها وخطابات عدوانية اعتبرت بمثابة أعمال استفزازية (لإسرائيل)، وأسرّْ إليّ بعض معاوني الرئيس المقربين بالقول «....لم يعد بإمكاننا فهم مسلك الرئيس الآن، فإذا كان عبد الناصر يتخوْف كثيرا ومنذ بدايات العام بشأن نوايا (إسرائيل) إزاء سوريا بعد أن أعلن الجنرال إسحاق رابين، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الإسرائيلية شن هجوم خاطف لاحتلال دمشق والإطاحة بالحكومة القائمة، وإذا كان الرئيس يؤمن بأن تلك التهديدات الإسرائيلية لا تعد سوى جزء لا يتجزأ من مؤامرة أوسع نطاقا على المنطقة تكون مصر المعنية أولا وأخيرا، فإن ذلك من شأنه أن يفرض عليه اتخاذ موقف موحد وشامل لأي قرار أو فعل أو قول، ولا يجعلنا نحير مع أنفسنا نظير تلك التناقضات التي يأتي بها بين الفينة والأخرى...»... وهم المؤامرة ولما كان عبد الناصر ليس بعيدا عن نبض الشارع المصري فقد أحذ يتقبّل تلك التناقضات والمشاكسات مُبرّرا إياها بعدم معرفة الجميع بأمور السياسة الداخلية، ففي أول لقاء معه بعد الأزمة أخذ عبد الناصر يتحدّث إلي بالقول «....كان الجميع يعلم بأن الإشكالات قد أخذت تتكرّر بيننا وبين الدولة العبرية التي أخذت تجسّ النبض العربي بالاعتداء على سوريا أولا وتدمير عدة طائرات لها، ولعلّ هذا ما جعل التيار الأكثر تطرفا في حزب البعث ينادي بتدمير الكيان الصهيوني انطلاقا من حرب تحرير وطنية يبدأها الفدائيون الفلسطينيون وأعضاء حركتهم السرّية فتح التي يقودها ياسر عرفات، فهل يعقل لدولة يتم اختراق حدودها بشكل دوري أن تبقى مكتوفة اليدين إزاء ما تتعرض له من انتهاكات صريحة يحميها القانون الدولي، رغم أن مثل هذه الانتهاكات كانت باعتراف قادة الدولة العبرية وعلى لسان الجنرال دايان الذي اعترف في مقابلة صحفية قائلا: لا بد لنا أن نقر بأن الدولة اليهودية مذنبة في أكثر من 80 % من المواجهات المسلحة، ومذنبة أيضا بإرسالها جرارات لحرث الأراضي في المنطقة منزوعة السلاح فيما يمثل خرقاً لاتفاقات الهدنة، فالجنود الذين كانوا يرتدون أزياء مدنية ويقودون الجرّارات الزراعية يتلقون الأوامر بمواصلة تقدمهم إلى أن يقرّر السوريون ومن فرط الغيظ فتح النار ليأتي من ثَم ردنا الانتقامي من قبل مدفعيتنا وطيرانها، كنا نعتقد بسذاجة أن تلك المعارك المتكرّرة ستؤدي في النهاية إلى إرغام دمشق على الإقرار عملياً بالسيادة الإسرائيلية على المنطقة منزوعة السلاح لكن ذلك باء بالفشل وفتح علينا النار من كل حدب وصوب ....»، لذلك كنا على الدوام في مصر(يردف عبد الناصر) نحاول ونحاول أن نتجنب الحرب ونجنّب شعبنا الذي وضع ثقته بنا لقيادة السفينة إلى برّ الأمان، لكن الأمر كان لا بد منه ولا بد من حدوثه... وهو ما حدث فعلا».