كرة القدم اكتشاف عبقري، مثل التلفزيون والأنترنيت وكوكاكولا والبطاطا، لا يمكن أن نتخيل العالم بدونها، رغم أن أجدادنا عاشوا قرونا طويلة دون أن يسمعوا عن «حارس المرمى» و»الركنية» و»ضربة الجزاء»، وكانوا سعداء ومطمئنين على ما يبدو... تصوروا عالما بلا بطولات وبلا مونديال وبلا برازيل وبلا «ريال» وبلا «بارصا»؟ الكرة «مخدر قوي»، يحل كثيرا من مشاكل العالم، لذلك يستثمر فيها السياسيون وتعطيها الدول قيمة استثنائية، ويصر رؤساء الدول على تسريب صورهم وهم يشجعون فرقهم الوطنية، في المونديال الذي تجري أطواره في البرازيل. بسبب كرة القدم، يفرح الشعب دون أن يكلف السياسي أي شيء، رغم الأزمة الاقتصادية والبطالة وانسداد الآفاق، ورغم الحروب والقتل والدمار، تخرج الحشود إلى الشارع كي تعبر عن فرحتها بالانتصار. أي انتصار؟ كرة تستقر في شبكة ! ثمة شيء طفولي في القصة. عندما كنا صغارا كانت أجمل الألعاب بلا منازع هي كرة القدم. كرتنا كانت بلاستيكية بمربعات صغيرة، «كرة ديال الميكا»، لونها أزرق أو أخضر أو بني وثمنها ثلاثة دراهم. نبتاعها عِندَ البقال، تراها معلقة على حبل في الدكان جنب عناقيد التمر والمكنسات وكتب السنة الرابعة ابتدائي. كنا «نتناقش» في ما بيننا كي نشتريها. نقوم باكتتاب سريع يشارك فيه كل أطفال الحي: عشرون سنتيما للواحد. قبل الشروع في اللعب، نثقبها بإبرة كي يتسرب منها قليل من الهواء. إذا لم تفعل تنفجر الكرة لدى اصطدامها بأول مسمار أو قطعة زجاج وتترك لك غصة في الحلق. كنا نلعب طوال اليوم، نسجل عشرات الأهداف، ونرتكب عشرات المخالفات، ونحول النهار إلى ساعات مليئة بالصياح والشتائم. شتائم سوقية لا يمكن أن تستقيم المباراة بدونها. نسقط وننهض، نراوغ ونسجل، نتشاجر ونتصالح، ولا نفكر أبدا في العودة إلى البيت. لا يجبرنا على ذلك إلا الظلام، حين تغرب الشمس وتصبح الكرة غير مرئية بالعين المجردة. عندما نقرر الانصراف، تواجهنا دائما نفس المشكلة: من سيحظى بشرف الاحتفاظ بالكرة؟ الكل يريد أن يأخذها معه. الكل يتذكر العشرين سنتيما، التي كانت تدفئ جيبه، ويقسم ألا يعود إلى البيت بخفي حنين. وبسبب ميلنا التلقائي إلى العدوانية والعناد، نعجز دائما عن التفاهم. بعد أخذ وردّ، نلجأ إلى «الحل النهائي»: نفتش عن شفرة حلاقة أو سكين ونشرع في تمزيق الكرة إلى مربعات صغيرة، نفرقها في ما بيننا قبل أن ننسحب في اتجاه بيوتنا ونحن نشعر بمزيج من الحسرة والاطمئنان: حسرة على الكرة التي لم تعش أكثر من نهار واحد واطمئنان لأن الآخرين لم يأخذوها معهم. تبدأ الخشونة عادة عندما يصيح أحد الأطفال بعد طول نقاش: «عرفتي آش يجيكم مليح، عطيوني الكارو ديالي!»، حينها يشعر البعض بمغص في المعدة، ويزايد عليه آخر: «عطيني حتى أنا الكارو ديالي»... ويأتي ثالث بشفرة حلاقة ويشرع في تمزيق الكرة إربا إربا، ثم نذهب إلى بيوتنا متحسرين. «الوجه المشروك ما كيتغسلش»، والكرة المشتركة عمرها نهار واحد. في اليوم الموالي، نشتري كرة أخرى، ونمزقها في نهاية النهار بنفس الطريقة. كنا نحلم بكرة حقيقية، «ميكازا»، التي يستعملها الكبار في الملعب البلدي ولا تستطيع شفرة الحلاقة أن تمزقها. أحيانا، كنا نلعب ضد فرق أحياء مجاورة. نذهب عندهم أو يأتون عندنا. مباراة ساخنة يكون فيها الفوز حقيقيا. كل لاعب يعطي درهما ونلعب على حصة محترمة. الملعب عبارة عن مكان مهجور نضع فيه حجرين من كل جهة كي نحدد المرمى، وعادة ما تكون أرضيته غير مستوية. الفريق المحظوظ هو من يلعب في الجزء المرتفع من الملعب أو تكون معه الريح، لذلك كنا نقوم بالقرعة قبل بداية المباراة كي نحسم في هذه الامتيازات، «بيل أو فاس». من يربح يختار المكان الأفضل. كل الوسائل كانت مشروعة للانتصار والظفر بالدراهم. كان رشيد، صديق الطفولة والحي داهية. عندما تقع القرعة على الفريق الخصم، يوشوش في آذاننا مقترحا أن نرفع أيدينا ونصرخ كما يفعل المنتصرون بمجرد ما يكشف الآخرون عن الجزء الذي يفضلون احتلاله من الملعب. ورغم أنهم تركوا لنا الجزء الأسوأ، فإن حركتنا تدخل الشك في صفوفهم، ويدخلون المباراة وهم يعتقدون أنهم أخطؤوا الاختيار. كان رشيد خبيرا في الحرب النفسية. عندما ننتصر نحمل الدراهم الثمينة ونجري عند عبد الرحمان «مول الشفنج»، كي نحول الدراهم إلى «شفنجات» ساخنة نطفئها في السكر والبيض.